اقتصادنا في سياق الازمة العالمية ونموذجنا التنموي في عهد كورونا

بقلم: حمزة الحمداوي (*)

يعيش العالم منذ عدة أشهر على إيقاع أزمة عامة وشاملة، متعددة الأبعاد بسبب فيروس كورونا، والتي شملت الاقتصاد في جميع جوانبه بصفة عامة والقطاعين المالي والبنكي بصفة خاصة. وعودة إلى تاريخ الأزمات العالمية الاقتصادية الرأسمالية يمكن التساؤل عما هو الفرق ما بين الأزمة المعروفة باسم “الانهيار الكبير” والتي امتدت من 1873 إلى 1896 بأمريكا والأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 1929 واستمرت قرابة 20 سنة، والأزمة المالية التي ظهرت شرارتها الأولى بداية سنة 2007 بالولايات المتحدة، والأزمة المالية والاقتصادية الراهنة في زمن فيروس كورونا المستجد؟ وما هي تداعيات هذه الأخيرة على المجالات الاقتصادية من الدرجة الأولى والاجتماعية والثقافية والسياسية على المستوى الوطني.
بداية، الكل يعلم أن الأزمة العالمية الرأسمالية المعروفة باسم “الكساد الكبير” أو “الانهيار الكبير بالإنجليزية Great Depression” هي أزمة اقتصادية حدثت سنة 1929 وظهرت عوالمها ما بين عقد الثلاثينيات وبداية عقد الأربعينيات، وتعتبر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين. وحول هذه الأزمة التي عاشتها أمريكا على الخصوص، يقول المؤرخون إنها بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر 1929 والتي أصبحت معروفة ب”الثلاثاء الأسود”، وخلال هذه الفترة كانت أمريكا في عقد العشرينات، تنعم في ازدهار اقتصادي وأعقبه ركود عرف سنة 1929م ب”الانهيار الكبير”، ثم عادت فترة الكساد سنة 1932م. فقد بدأت الأزمة مع انهيار مفاجئ وكامل للبورصة. وعلى الرغم أن الأسهم بدأت تتعافي منتصف سنة 1930، فقد عادت لمستويات بدايات عام 1929، إلا أنها ظلت بعيدة عن مستويات شهر شتنبر 1929 بحوالي 30%. فخلال هذه الفترة زاد الإنفاق الحكومي خصوصا خلال النصف الأول لعام 1930، لكن إنفاق المستهلكين لم يواكبه بشكل إيجابي، بل قل بنسبة 10% وذلك بسبب الخسائر الفادحة بسوق الأسهم، بالإضافة إلى موسم الجفاف الشديد الذي عصف بالأراضي الزراعية الأمريكية مع بداية موسم الصيف سنة 1930، وعرف أنذاك بموسم “قصعة الغبار”.
أما خلال السنين الأخيرة من القرن الواحد والعشرين، فقد عرف العالم مجموعة من التقلبات المالية التي كانت السبب الرئيسي في تراجع مستوى معدل النمو بعدة دول العالم وخاصة منها الأوربية والعالم الثالث، وبالضبط في شتنبر 2008، بدأت أزمة عالمية والتي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929م. فكانت الولايات المتحدة الأمريكية أول الدول التي تكبدت خسائر مهمة من جراء الأزمة، ثم امتدت إلى دول أخرى في العالم ليشمل الدول الأوروبية والدول الآسيوية والدول الخليجية والدول النامية التي ارتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي. وقد بلغ عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتحدة خلال سنة 2008 إلى 19 بنكا، كما توقع آنذاك المزيد من الانهيارات الجديدة بين البنوك الأمريكية البالغ عددها 8400 بنكا، وامتدت إلى الوقت الحالي، حيث إن آثارها لا زالت تلحق أضرارا بالغة على اقتصاديات الدول المتقدمة، وعلى وجه الخصوص منطقة الأورو بما فيها فرنسا، واسبانيا، وايطاليا، وبريطانيا، واليونان، والبرتغال، وغيرها، سواء على مستوى الإنتاج أو التصدير أو الاستيراد، أو على مستوى الأسواق المالية. فبالإضافة إلى مؤشرات الأزمة سالفة الذكر، فهذه الازمة التي بدأت مع ما كان يعرف بأزمة السوق العقارية، تحولت إلى أزمة شركات مالية، ثم أزمة أسهم، وانتقلت هذه العدوى إلى الدول الأوروبية نظرا للارتباط بين الشركات المالية الأمريكية والأوروبية.
وبما أن المغرب يحظى في إطار علاقته بالاتحاد الأوروبي بالوضع المتقدم، وتربطه مع الدول الأوروبية العديد من اتفاقيات الشراكة والتجارة، وكذا اتفاقية التبادل الحر، فإنه قد عانى من آثار هذه الأزمة خصوصا في بعض القطاعات كالفلاحة والسياحة وعائدات المغاربة المقيمين بالخارج، وكذلك الاستثمار الأجنبي بالمغرب. وفي سياق مواجهة الأزمة، قامت الحكومة المغربية في بداية الربع الثالث من عام 2008 باتخاذ سلسلة من التدابير الرامية إلى دعم مستوى العرض والطلب، واحداث توازنات داخل السوق المحلية، وأيضا استطاع المغرب بحكم التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، مضاعفة حجم الاقتصاد الوطني، وذلك بفضل إنجازه مجموعة من الأوراش تتعلق بالبنيات التحتية وإنشاء مشاريع كبرى، وبذلك، تم تحقيق نقلة نوعية في النمو الاقتصادي بداية الألفية الثالثة امتدت إلى غاية 2008.
من هنا يمكن أن نستنتج، أن الاقتصاد المالي المغربي لم يتأثر بالأزمة المالية لسببين، أولهما أهمية الإطار التنظيمي الذي تميز بالتقييد الصارم بقواعد المخاطر، وثانيهما، ضعف اندماج النظام المالي الوطني مع النظام المالي الدولي، إلا أنه رغم كل الاعتبارات والخصائص التي يتميز به الاقتصاد المغربي، والتي كانت السبب في عدم تأثره تأثيرا كبيرا كما هو الشأن ببعض الدول العربية، وعلى وجه الخصوص دول الخليج، فإن بعض القطاعات لم تسلم من آثار وتداعيات هذه الأزمة الاقتصادية العالمية.
واليوم، يعرف المغرب كباقي الدول العالم أزمات متنوعة بسبب جائحة فيروس كورونا المعروف بـ covid-19 على المستوى الدولي وقد تم اكتشاف هذا الوباء الفتاك في دجنبر 2019 في مدينة ووهان وسط الصين، وصنفته منظمة الصحة العالمية في 11 مارس 2020 جائحة، كما نتج عن هذا الفيروس من إضطرابات ميكرو اقتصادية وكذلك ماكرو اقتصادية، إلا أنه لحد الساعة لا نعلم ماهي حدود العواقب العامة على مختلف المستويات التي سوف يخلفها هذا الفيروس، ولكن يمكننا اعتباره درسا قاسيا، خصوصا الدول النامية وأيضا الدول المتقدمة صناعيا.
وبسبب هذه الجائحة، انكشفت حدة الأزمة السياسية التي تعيشها المملكة المغربية في الفترة الأخيرة، أزمة أثرت في مختلف المجالات في البلاد، خصوصا منها الاقتصادية والاجتماعية، ما سوف يجعل المملكة تعيش أزمة شاملة قد تؤثر بشكل كبير على البلاد والعباد. وكما يعلم الجميع، فإن الوضع الاجتماعي من تعليم وصحة الذي يعيشه المغرب راجع إلى تراكم العديد من التجارب السلبية والتي أفضت إلى أزمة شاملة وواضحة المعالم. ويظهر جليا أن السبب راجع إلى اللاتناغم بين مكونات الأغلبية المتعاقبة الحكومات، حيث سيطرت الحسابات السياسية الضيقة، كما أن عملية المد والجزر انعكست على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المغرب.
وعليه، يمكن القول إن وضعية المغرب الراهنة لا تتطلب فقط إصلاحات هيكلية في إدارتها لمواجهة تحديات هذا الوباء، بقدر ما تتطلب استراتيجية واضحة المعالم تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للوطن، بعيدا عن الحسابات الضيقة التي أغرقت الأحزاب السياسية بالانتهازيين في إطار التوافقات السياسية. إذا كل ما عرت كورونا عنه اليوم، من إخلال في التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ببلادنا، ناتج بالأساس عن عدم اعتماد الحكومة على المفهوم الحقيقي للجهوية المتقدمة كإطار عام من أجل تحقيق العدالة المجالية من خلال إيجاد آليات خلق الثروة وتحقيق التنمية المستدامة، وبالتالي توزيع عادل لثمار التنمية بين جهات المملكة.
اليوم وبسبب كوفيد 19 يعرف المغرب أزمة اقتصادية نوعية لها تأثير مباشر على الاقتصاد الوطني باعتباره اقتصادا تابعا، فكان لزاما أن يتم التفكير في إدخال إصلاحات على العديد من القطاعات الحكومية ولا حكومية، وكذلك إعادة النظر في الأولويات التي يجب على الحكومة المغربية اتخاذها والإسراع في اتخاذ التدابير الأساسية التي تتطلب اعادتها كليا او إصلاحها جزئيا.
إن ما تعيشه فئة واسعة من المواطنين المغاربة اليوم من أزمات صحية وتعليمية إضافة إلى تفشي البطالة، أثرت بشكل سلبي على وضعيته خصوصا في حالة الحجر الصحي، حيث أصبح مطالبا بمضاعفة الاستهلاك. ومن اجل تجاوز هذه الأزمة مرحليا، عملت الدولة على تنشيط القروض البنكية الاستهلاكية، والتي كانت لها انعكاسات سلبية على الخزينة العامة للمملكة مما حذا بجلالة الملك محمد السادس بتعليماته السامية الداعية إلى توفير شروط تمويل الإجراءات الوقائية لمواجهة فيروس كورونا والحد من آثاره، تم إحداث حساب خصوصي بعنوان “الصندوق الخاص بتدبير ومواجهة وباء فيروس كورونا” وهذا الحساب الذي رصدت له من الميزانية العامة للدولة اعتمادات مالية بمبلغ 10 مليارات درهم بشكل رئيسي والذي كان من بين أهدافه دعم الاقتصاد الوطني لمواجهة تداعيات هذا الوباء من خلال التدابير التي ستقترحها لجنة اليقظة الاقتصادية (CVE)، وذلك للتخفيف من التداعيات على المستوى الاجتماعي أساسا.
إلى جانب كل هذا، يستوجب علينا جميعا أن نتأمل في مكامن الضعف الأساسية، التي يعاني منها المغرب، خصوصا وأننا بصدد العمل على وضع تصور للنموذج التنموي ببلادنا، والذي يجب عليه الإجابة على تساؤلات وتطلعات المواطن، علما وبشهادة الجميع، أن النموذج التنموي السابق أقر بفشله الجميع، ويتحمل الجميع مؤسسات وأحزاب و نقابات وجمعيات وأثرياء هذا البلد، بل وحتى النخب المسيرة المسؤولية التاريخية.
لذا وجب علينا، تجنب لغة الخشب واعتماد الخطاب القريب من المواطن، الذي يلبي تطلعات البلاد ويقفز به إلى مصاف الدول الصاعدة، لا سيما أن ملك البلاد حث على الصراحة والموضوعية والجرأة، وهي إشارات ذكية يجب التقاطها من طرف الجميع. كما يجب إيلاء العناية بالقطاعات المتضررة وإعطاؤها أهمية قصوى لتطويرها حتى تكون قادرة على استجابة تطلعات المغاربة، وفي مقدمتها قطاع التعليم بجميع مستوياته، وقطاع الصحة الذي يقوم في هذه الفترة الحرجة بمجهودات كبيرة ونبيلة لحماية المواطن المغربي من انتشار فيروس كورونا.
أما على الصعيد الاقتصادي، فالكل يعلم أن هناك تباطؤا في وثيرة نمو الاقتصاد الوطني بأقل من 3% وتزايدا في ثقل المديونية بأكثر من 60% من الناتج الداخلي الخام، أضف إلى ذلك، تزايد حدة ظاهرة الريع، وضعف دينامية المقاولات الوطنية. وبالنسبة للقطاع الاجتماعي فهناك فئة كبيرة تعاني من الفقر والحرمان والبطالة…، ونظرا لتعدد الاشكالات وتداخل العوامل، فلابد من البحث عن مخرج جديد من شأنه تجاوز الاختلالات الراهنة، ويتمحور أساسا حول إيجاد بدائل تنموية كفيلة بخلق الثروة من خلال الاستثمار في القطاعات المنتجة، والرفع من التقائية تنافسية الاقتصاد الوطني والمقاولات، خاصة منها المبتكرة والمصدرة، واعادة توطين محاور التنمية على أساس الرأسمال اللامادي المتمثل في المؤهلات البشرية والثقافية والتراث، وتثمينه حتى يتسنى الانتقال من المنطق التقليدي القائم على التقليد، إلى منطق عصري قائم على الابتكار والابداع، أو ما يسمى باقتصاد المعرفة، كما أن خلق الثروة يقتضي توزيعها العادل، بمعنى أدق وجود آليات قانونية من خلال تبسيط المساطر القانونية وتفعيل مقتضيات دستور 2011 ودعم الاختيار الديمقراطي كضرورة ذات راهنية وتنفيذية لمحاربة الفساد والتصدي لظاهرة الريع بمختلف أشكاله، وأيضا تحقيق التوازنات المجالية والتصدي للاختلالات السوسيو اقتصادية.
في الختام، يمكننا القول إن معالجة موضوع من هذا الحجم المرتبط بأزمة الفيروس كورونا المستجد، مهما كان للفيروس من عوائق وتداعيات سلبية على الاقتصاد والارواح البشرية، فإنه أيضا مناسبة للتفكير في إيجاد حلول وطرق جديدة لتدبير الأزمات، ورؤى واضحة لبلورة النموذج التنموي الجديد الذي سيحول المغرب من تصنيفه من بين الدول النامية إلى الدول المتقدمة تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.

(*) باحث في التدبير الإداري والمالي

اترك رد