معالجة البدانة بالبدانة!

بقلم: د. خالص جلبي

النظرية الجديدة في معالجة البدانة هي عكس كل التصور الطبي السابق، فالبدانة تعالج بالبدانة! وبكلمة أدق بتناول المزيد من الدسم! ولكن كيف؟ لعل مما يفيد في الإجابة على هذا السؤال معرفة ما حصل مع الدكتور ديفيد لودفيج، وهو استشاري التغذية في جامعة هارفارد للصحة العامة، كما أنه طبيب أطفال في مشفى بوسطن، أنه كان حريصاً على تقليد التعاليم النظرية حول تخفيف الوزن، فلم يزدد إلا شحماً وبدانة. ونحن الأطباء ننصح مرضانا المعتلين بالبدانة بالوصية التاريخية: من تناول اللحوم الخفيفة والخضار والفواكه وتجنب الكاربوهيدرات و«الأدهان»، وممارسة الرياضة وعدم الإثقال خاصة في طعام العشاء (الوصية الثلاثية أفطر ملكاً، تغدَّ أميراً، تعشَّ فقيراً).

فعل الطبيب الاستشاري لودفيج كل هذا ويزيد، وكلما تفقد جسمه راعه الانتفاخ يوماً بعد يوم، فهجم على المراجع الطبية وكتب التغذية ووصايا الأقدمين ليعرف أين السر في مشكلة البدانة؟

تعتبر مشكلة البدانة مشكلة عويصة، فكل واحد من ثلاثة في أميركا يشكو من البدانة (Adipositas )، وفي ألمانيا كل واحد من أربعة، ولا يتمتع بالوزن الملائم أكثر من 40% من السكان، بل يضرب مرض السكري مواطني الدولة العظمى أميركا بعاصفة صحية، ويعتبر كل واحد من اثنين إما أنه مصاب بالسكري أو يحمل مقدماته (Prediabetes )، ويكلف هذا الدولة أزيد من 190 مليار دولار سنوياً، أي ما هو أكثر من كل تكاليف رحلة الهبوط على سطح القمر والمريخ.

أصيب صاحبنا الدكتور ديفيد لودفيج بالقنوط فهداه تفكيره إلى دراسة دورة الأنسولين وتخزين «السكاكر» وتكوم الأدهان فخرج بنظرية مزلزلة أثارت ضجة عند الرأي العام الأميركي ونشرها في كتاب «لماذا علينا الإكثار من الدسم في طعامنا كي ننحف؟». وحالياً يركض إليه الخبراء من كل جانب يسألونه الرأي والنصيحة! ليس فقط لأنه كتب بل لأنه بهذه الطريقة التي سنشرحها باقتضاب نزل وزنه في أربعة أشهر عشرة كيلوغرامات، وبدأت ملابسه القديمة تبدو فضفاضة على كرشه السابق.

والرجل ليس جديداً في هذا المضمار كما أشرنا إلى مركزه الطبي، فقد نشر منذ التسعينيات أكثر من 150 بحثاً في التغذية نشرتها مجلات محكمة مثل «لانست» و«جاما» (Lancet & Jama ) ولكن الانبعاث الجديد في أفكاره هو عكس كل النصائح المتوارثة.

يقول الطبيب لودفيج حين تأملنا في دورة الطعام نكتشف أنه ليس عندنا ثقافة غذائية واضحة ونظرة بسيطة إلى عمل الأنسولين توضح لنا السبب، فنحن حين نأكل يقفز الأنسولين إلى مجرى الدم، ولكن ما يحصل في الكربوهيدرات، وهو ما تعوده جسمنا في الرحلة الأنثروبولوجية كي ننجو من المسغبة، يقوم الجسم بخطة ذكية في دفع هذه المواد إلى مخازن الشحم، ولكن هذه الحركة تدفعنا للجوع من جديد، فالأكل من جديد، فالتخزين من جديد، فمزيد من السمنة! أما حين نتناول الشحم والدسم فلا يقوم الإنسولين بالحركة نفسها بل يقود إلى الاستهلاك. وعلينا أن نفهم كيف يعمل جسدنا مع الطعام فنحن لسنا «موتور» احتراق بل ماكينة معدة بعناية فائقة لمتعة الطعام والتخزين للمجاعات.

هكذا ينصح الدكتور لودفيج: افطر بوجبة من بيض دسم مع جبنة دسمة، (ملعقتان) مع زيت الزيتون، وزبادي يوناني «يوجورت» فوقها مارملاد «مربى» ولا تخش شيئاً فلسوف ينقص وزنك ولن يزيد! ويضيف الرجل: لماذا يشعر السمان بالجوع دوماً فيأكلون فيزدادون بطنة فينعسون؟ إنها الدورة الغلط في التغذية، ولكن مع تناول الدسم يشعر المرء بالشبع لأنه يستهلك شحم بدنه فيهبط وزناً.

بالطبع هذه الوصفة تخالف ما قاله أبوقراط أبو الطب القديم في وصفته المعروفة للبدينين المتضايقين من شكلهم خاصة النساء: عمل شديد مجهد، نوم على فراش قاس، أكل مرة واحدة في اليوم! ولكن هذا يعني عذابا فظيعاً يعرفه من يجوع!

وبالطبع فإن نظرية صاحبنا هذا من جامعة هارفارد استقبلت في البداية بنقد شديد، كيف نعالج النار بالنار؟ ولكننا نعرف في الطب أن هذا يحدث أحياناً، فقد عالج الطبيب النمساوي «فايس» مرضى الزهري بحقنهم بمكورات مرض الملاريا فالتهبوا فحمي جسمهم فأهلك اللولبيات الشاحبة مسببة مرض الزهري.

اترك رد