الأسرة والقيم والتحديات المعاصرة
بقلم: عبدالعزيز تكني (.)
في إطار فعاليات برنامج سفراء مكارم 2023، التي ينظمها المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري ببريطانيا، في نسخته الثانية “دورة فطرة”، والتي تقام ما بين 28- 05ماي 2023، عبر تقنيات التناظر عن بعد، في موضوع: (الأسرة ومجتمع القيم الإنسانية)، والتي تنسق أشغالها وبرنامجها العام، الباحثة في قضايا الأسرة والطفل، وعضو المركز الدولي الدكتوراة صباح العمراني.
تقدم فضيلة الدكتور فؤاد هراجة [1] بإلقاء المحاضرة الرئيسية الأولى، يوم الجمعة12 ماي 2023، اختار لها عنوان: “الأسرة والقيم والتحديات المعاصرة”، وقد سيرت أشغالها تقديما وتفاعلا، فضيلة الدكتورة علياء شاكر من تركيا وهي مقيم جودة في التعليم، ومقدمة برامج بقناة قاف التركية.
بدأ فضيلة الدكتور فؤاد هراجة مداخلته بالشكر لكل من ساهم في إعداد هذه الدورة، الجمعيات والمنظمات، وفي مقدمتهم الأستاذ حمادي لخضر وفريقه في العمل، كما شكر مسيرة المحاضرة، فضيلة الدكتورة علياء شاكر، مذكرا بأن موضوع محاضرته من أكثر المواضيع استهلاكا على مستوى النقاش الثقافي، فهناك الآلاف من المقالات والمؤلفات والكتب التي تناولت المسألة، متسائلا في زمن توفر المعلومات(gpt chat)، عن القيمة المضافة التي ستضيفها محاضرته، موضحا أن المقصد منها البحث عن أدوات تحليل منهجية، لها القدرة على استيعاب سياقاته، وإدراكه، وامتلاك آليات منهجية لنقده، وتقديم مقترحات لتجاوز التحديات المعاصرة التي تواجه الأسرة.
ليتناول الحديث بعد ذلك الباحث في فلسفة الأخلاق عن التطور الذي شهده مفهوم الأسرة، والمقاربات التي تناولته (النفسية والأنتربولوجية والشرعية والاجتماعية..)، بحيث انتقلت من براديغم يعتمد على قضايا كلية، شكلت خلاله الأسرة مسألة جزئية، فكان الحديث عن أنساق ابستمولوجيا كبرى. ومع التطور والتقدم الصناعي والتكنولوجي صرنا نتحدث عن براديكم جديد بروح علمية جديدة، يتمحور حول الخلية باعتبارها نواة الحياة البيولوجية، والذرة باعتبارها نواة الحياة الدينامية.
مع هذا التحول في البراديكمات أصبح البحث في الجينوم البشري، وفي النواة المؤثرة في الحياة، يفرض نفسه، بل التحكم فيها ايديولوجيا وثقافيا..، فتغيرت بذلك وظائف الأسرة وأدوارها، هذا بطبيعة الحال هو السبب الرئيس حسب تعبير الدكتور هراجة في ظهور صراع المفاهيم، خصوصا مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ألغى القيود الدينية والجنسية.. في تكوين الأسرة، وبالتالي صرنا أمام تحريف الأصل الذي تُبنى عليه الأسرة. [2]
انتقل بعد ذلك فضيلته لبيان التعاريف المتعددة التي تناولت مفهوم الأسرة، واختلافها بحسب الحقل المعرفي الموظف فيه، الأسرة من منظور: علم النفس؛ ومن منظور علم الاجتماع؛ ومن منظور التربويين؛ ومن منظور المعايير الوظيفية، مؤكدا أنه ليس هناك تعريفا واحدا، لكن المنظور الذي يثير إشكالا حسب تعبير هراجة اليوم هو المنظور الاقتصادي، بليبرالياته المتوحشة، بحيث تم الانتقال من macro familleالأسرة الممتدة إلى micro famille الأسرة النووية.
لقد حاول الدكتور هراجة موفقا أن يفسر بشكل علمي الأصل الذي تتأسس عليه نواة الأسرة من منظورين مختلفين، وأن ينتقد بعلمية أصل تكوين الأسرة بين المنظور الغربى المادي العقلاني الإلحادي، والمنظور القرآني السنني الائتماني، والذي لا يلغي العقل وإنما يوظفه في حدود، وبقيود منطقية.
إن الأصل في تكوين الأسرة هو الله تعالى، برعايته وتحت عنايته سبحانه، قال سبحانه: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ” (الْأَعْرَافِ: 189). وقوله تعالى أيضا: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم: 21)
إن الأسرة حسب متفضل به الكاتب في فلسفة الأخلاق تتميز في المنظور القرآني بفطرتها بطبيعيتها متأصلة بطبيعة الخلق، بالائتمانية والمسؤولية والتعبد والتقرب إليه سبحانه، مبرزا أن الإشكال اليوم بخصوص الأسرة هو سؤال البدء، وهو أصل المعركة في الواقع المعاصر مع العالم الغربي، وهذه المعركة حسب رأيه استراتيجية، يجب أن تأخذ صبغة التدافع وليس صبغة التصادم. يقول الله تعالى: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”( سورة الحج: 40)، داعيا إلى الاستفادة من نظرية الغراب، وما فيها من عبر ودروس في المشترك الإنساني.
ليختتم الدكتور هراجة محاضرته القيمة بمحور في غاية الأهمية، عنونه ب: الأسرة والتحديات المعاصرة، حيث يرى أن الحديث عن التحديات لا يمكن أن نفصله عن الوظائف والأدوار التي يجب أن تضطلع بها الأسرة في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي. لقد صارت الأسرة حسب تعبيره مهددة من قبل منظمات ببرامج ومخططات المسخ والشذوذ، لا تعرف الحدود الجغرافيا ولا قيم الهوية ولا الخصوصيات. محاولا أن يربط هذه التحديات بما عرفته الإنسانية منذ زمن النبوة والخلافة الراشدة من بناء القيم الأسرية في شموليتها ورشدها حيث شكلت النموذج الغائب اليوم، فالعالم اليوم يشهد غزوا فكريا واستعمارا ثقافيا، بين عالم الاستكبار وعالم الاستضعاف، وكما عبر عنه المحاضر أنه أخطر من الغزو بالذبابات والأسلحة..، فصارت الأسرة المسلمة المستضعفة أمام اختراق خطير للأشخاص، استطاع أن يغير أفكارهم ومعتقداتهم وتصوراتهم، وصار يشكل عقبة أمام الوالدية، لابد أن تفكر في اقتحامها ومناهضتها وتغييرها. ليخلص إلى سؤال الكيف؟ كيف نتصدى لهذه المتغيرات، والتحديات؟ مقترحا مجموعة من الآليات والوسائل العملية التي من شأنها أن تحفظ هذه النواة، وتصونها من عوامل الهدم والفساد والشذوذ، وفي مقدمتها المسؤولية الائتمانية، غرس قيم المحبة بين أفراد الأسرة، التواصل الايجابي، التوافق الروحي..
إن الأسرة تبقى هي قطب الرحى، والملاذ الأخلاقي الروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي..لسلامة المجتمع وفطرة أفراده، عبر مناهضة كل أشكال الفساد الأخلاقي والشذوذ، وبالمقابل الالتزام بشرائع الله تعالى دون أن نعطل عقولنا.
بعد ذلك تم فتح باب النقاش والأسئلة والاستفسارات من قبل منشطة المحاضرة ومديرتها، وطرح الأسئلة، وتبادل الآراء للمشاركين والمشاركات من مختلف دول العالم، ضمن فعاليات برنامج سفراء مكارم 2023، “دورة فطرة”، التي ينظمها المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري، حول مختلف القضايا والإشكالات التي تناولها فضيلة الكاتب والباحث في فلسفة الأخلاق الدكتور فؤاد هراجة في محاضرته القيمية “الأسرة والقيم والتحديات المعاصرة.
وفي الختام أعادت مسيرة المحاضرة المتميزة علياء الكلمة للمنسقة لدورة سفراء مكارم الباحثة في قضايا الأسرة والطفل، الأستاذة صباح العمراني، والتي بدورها نوهت وشكرت المشاركين على التزامهم، وتقدمت بالشكر الخاص لميسرة المحاضرة، وللمحاضر أ.فؤاد هراجة على تلبية دعوة المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري، وقبولها، مذكرة بالبرنامج القادم وبفعالياته.
[1] حاصل على دكتوراه في فلسفة الأخلاق من جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، له العديد من المؤلفات والمقالات العلمية المحكمة، والمشاركات في ندوات وطنية ودولية.
[2] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتهمنا المادة 16 منه، لارتباطها بموضوع المحاضرة. وقد صاغه ممثلون عن مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم، واعتمدت الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس في 10ديسمبر1948، بموجب القرار 217 ألف بوصفه انه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم، وترجمت تلك الحقوق إلى 500لغة من لغات العالم.
(.) عبدالعزيز تكني
دكتوراه في علوم التربية، وباحث في القيم والتربية
كلية علوم التربية –الرباط-
للتواصل: 0663765944
tougniabdelaziz@yahoo.com