حديث عن ركوع النظام الجزائري لباريس
بقلم: لحسن الجيت
كما أشرنا مقالات سابقة بأن الندية التي يظهرها النظام الجزائري في مواجهة أزمته مع فرنسا لا تعدو أن تكون سوى رقصة ذلك الديك المذبوح. النظام الجزائري كما في الواقع لا يملك أوراقا ضاغطة تؤهله أن يلعب دورا رياديا في بناء سياسات محلية فبالأحرى لها أن تكون إقليمية. الارتجال والعشوائية والمزاجية كلها من مظاهر دبلوماسية متخلفة تقوم على ما سوف تكون عليه الحالة النفسية للثنائي الحاكم المتحكم في البلاد أولهما الجنرال شنقريحة وثانيهما الرئيس المعين عبدالمجيد تبون.
الجزائر بعيدة كل البعد كي تكون دولة مؤسسات، والحال كما هوفإن ما تنتجه من سياسات عمومية ونزوات دبلوماسية ليست لها صفة الديمومة والاستمرارية سوى أنها نتاج لردة فعل سرعان ما تتلاشى مع مرور الوقت.
فالتراجع المسجل على الدبلوماسية الجزائرية كما نعاينه في القرارات الأخيرة للحاكم الجزائري هي عبارة عن تراكمات لمسلسل من الفشل والإخفاقات في الخيارات المتسرعة والخاطئة. قد حدث ذلك وتكرر غير ما مرة. لكن الهزة الأرضية التي ضربت اليوم أركان الرئاسة الجمهورية ومقر هيئة الأركان شكلت ارتجاجا نوعيا فاقكل التوقعات في درجات سلم “ريشتر“.
هذه المرة ليست كسابقاتها لأنها كانت مزلزلة ومدمرة لما كانت تستند عليه الدبلوماسية الجزائرية. وبدأنا نسمع الحاكم الجزائري ما لم نتعود عليه وهو يتحدث عن كون زيارة المسؤولين الفرنسيين إلى الصحراء المغربية “ليس عملا استفزازيا” بالنسبة للجزائر، بمعنى أن الاستثمار في هذه الأقاليم لم يعد مثيرا ومستفزا كذلك للنظام الجزائري . ولا بأس إن توجه رجال الأعمال الفرنسيين برؤوس أموالهم لإقامة مصانع ووحدات للإنتاج في الأقاليم الصحراوية فلن يكون هناك، كما يبدو من واقع حالهم،أي اعتراض على هذا التوجه من طرف النظام الجزائري. ويبدو كذلك أن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء لم يعد موضع اعتراض أو عقبة أمام الرغبة الملحة والمذلة في آن واحد للقيادة الجزائرية بخصوص إعادة العلاقات إلى الهدوء مع فرنسا.
هذا التزحلق الجزائري من التصعيد إلى الاستجداء ثم الإنبطاح أمام أعتاب قصر الإيليزي، وفي وقت قياسي، لا تفسير له سوى أن القيادة الجزائرية أدركت أن معركتها مع باريس لا تبشر بالخير، بل ستكلفها الكثير من المتاعب. ولذلك وجدت نفسها أنه من الضروري الإسراع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن ينكشف عنهم بعض ما خفي عن الشعب الجزائري، وكذلك الخشية من الأسوأ والمتمثل في خروج باريس عن صمتها بخصوص ذلك الظلم والحيف التاريخي الذي ألحق بجغرافية المنطقة.
بكل تأكيد أن التودد الذي أظهره النظام الجزائري حيال فرنسا لإنهاء الأزمة مرده إلى التدرج في اتخاذ الإجراءات والقرارات الصارمة في حق رجالات النظام الجزائري بدءا من المنع الذي فرضته دولة المتروبول من دخولهم الأراضي الفرنسية رغم حملهم لجوازات دبلوماسية ولا تشفع لهم مهامهم الرسمية في الاستمرار بامتيازات من قبيل الحصانة الدبلوماسية. وقد استشعر النظام الجزائري خطورة ما قد تؤول إليه هذه الصرامة الفرنسية من تدرج قد يفضي إلى الكشف عن أملاك وممتلكات وأرصدة رجالذلك النظام وجنرالاته وعائلاتهم الممسكوة في الأبناك الفرنسية.
ولعل ما حدث من تراجع مخز قد يحمل الشعب الجزائري هذه المرة على أن يقف على مدى زيف سمفونية العنتريات التي طالما عزفها نظامه وأثقل بها على مسامعه وهو يصف نفسه بالقوة الضاربة.
إلى جانب هذه الاعتبارات الداخلية التي تقربنا من دواعي ذلك التراجع، تبين للنظام الجزائري أن الإبقاء على الأزمة مع فرنسا قد يكون خطأ استراتيجيا ويتعارض كليا مع الحسابات التي يحتفظ بها حيال المنطقة ككل وبالأخص ضد المغرب. المعادلة الإقليمية كما يراها النظام الجزائري محورها باريس وتستند على ضرورة كسب فرنسا إلى جانب الجزائر بمختلف ما يمكن تقديمه من تنازلات بما فيها وضع ثروات الجزائر تحت التصرف نكاية في المغرب. عروض لن يتردد النظام الجزائري في تقديمها كما يفعل حاليا مع إدارة دونالد ترامب. أرض وسماء الجزائر أصبحت عرضة للمزاد السياسي، ولا يضير النظام الجزائري إن كان ذلك على حساب القوت اليومي للشعب الجزائري وعلى حساب كرامته.
ما قد يزيد من مخاوف النظام الجزائري ويؤرقه وهو أن توهج العلاقات المغربية الفرنسية قد بلغ أوجه في اعتراف باريس بمغربية الصحراء ومن شأن هذا التوهج أن يتطور إلى سيناريوهات مرعبة تتوجس منها دولة الثكنات في ظل ما جرى ويجري الحديث عنه من فتح الأرشيف الفرنسي وتزويد المغرب بملايين من الوثائق السرية التي تكشف عن مغربية الأراضي التي مر بها المقص الاستعماري ليلحقها بما كان يسمى آنذاك بالأقاليم الفرنسية لما وراء البحار أي الجزائر كما أنشأتها فرنسا.
ومن المؤكد أن هذا الهاجس كان له وقع كبير على النظام الجزائري وقد حمله على تسريع الخطى بما يفيد الهرولة كي ينهي أزمته مع فرنسا بأي ثمن كان. ويعتقد أنه مهما كانت تلك التكلفة فإن حجمها سيبقى أهون بكثير من أن يجد ذلك النظام نفسه في مأزق إقرار باريس بأن الصحراء الشرقية كانت أصلا تابعة للمملكة الشريفة وأن الاستعمار قد فعل فعلته فيها.
وليس صدفة أن يتوجه هذا النظام بخطاب غير مألوف إلى فرنسا ويعتبر أن اعترافها بمغربية الصحراء الغربية لم يعد عملا مستفزا، سوى أنه يريد من وراء ذلك أن يرتمي في الأحضان ويتمسح بالأقدام لكي لا تمضي باريس إلى ما هو أسوأ. ولعل هذا النوع من التعاطي يذكرنا أيضا بنفس الطريقة التي تعامل بها ذلك النظام مع إدارة دونالد ترامب بعد أن قدم له الجزائر قربانا أملا في أن يحول هذا العرض دون قتح قنصلية أمريكية في الأقاليم الصحراوية أو أن يتخذ قرار أمريكي في تصنيف انفصاليي البوليساريو مع زمرة الإرهابيين.
الانبطاح الجزائري لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيعمل كل ما في وسعه لإرضاء باريس ولو على حساب ما كانت تتمسك به الجزائر. فكما يبدو أن قضية الكاتب بوعلام صلصال والتي جعل منها النظام الجزائري نقطة ارتكاز في مواجهته لفرنسا، سيجبرقريبا على طيها بإطلاق سراح ذلك الكاتب مزدوج الجنسية بعفو من الرئيس عبدالمجيد تبون لاعتبارات صحية.
يذكر أن هذا الكاتب قد اعتقله النظام الجزائري بسبب مواقفهالتي أعلن عنها، منها أنه لم يكتف بتأييده لمغربية الصحراء وإنما أيضا اعتبار الصحراء الشرقية كذلك أراضي مغربية يجب أن تعاد إلى أصلها. فهل إطلاق سراحه الذي بات في عداد المؤكد بعفو رئاسي، يعني أن النظام الجزائري قد بدأ يتخلى عن ثوابت دبلوماسيته التي طالما تغنى بها على مدى خمسين عاما، وأن ذلك قد يفتح الباب على مصراعيه لمعارضين من داخل الجزائر كي يعبروا عن مواقفهم أم أن الأمر يتوقف فقط عند حدود مواطن جزائري الأصل يعتد بجنسيته الفرنسية وتشفع له.
وقد حق له بفضل فرنسا ما لم يحق لغيره. وحاول النظام الجزائري مقايضته بتسليم زعيم القبايل فرحات مهني مقابل إطلاق سراح بوعلام صلصال. رفضت فرنسا وفشل النظام الجزائري. أسئلة وغيرها كثيرة ستضع القيادة الجزائرية محل اختبارات حقيقية وأمام تحديات أخرى لن تزيد النظام سوى ارتباكات متتالية.
الأيام والشهور والسنون في غدوها وقذ وصل الحال بالنظام الجزائري إلى هدر نصف قرن من الزمن في مطاردة السراب وخيط دخان فإذا به قد أرهق نفسه في البحث عن ذلك الذي لم ولن يتحقق، فيما المغرب خرج من تلك المحن قوي الشكيمة لا يشق له غبار. وعلى الذين لا يعلمون أن المغرب يراهن في حاضره ومستقبله كما كان في ماضيه العريق، على نفسه أولا قبل أن يراهن على غيره. والمحن التي مر بها عبر التاريخ غنم منها واستفاد وتعلم الدرس. ويبقى على من حشرنا الله معهم في الجوار أن يتعلموا بدورهم الدرس وأن يدركوا أن نصف قرن من الهدر يعادل جيلين تمت التضحية بهما. فإلى متى؟