شهوة عابرة

بقلم: هاجر وعديش

استيقظت على صوت عصفور يزقزق من خلال شباك غرفتها، استغرقت بضع دقائق لتستوعب أن اليوم يوم مميز للغاية، ففي مثل هذا اليوم تعالت صرخاتها وتنفست رئتاها أول نسمة هواء. قامت من مكانها مسرعة لترتدي فستانها الأحمر الذي ٱختارته خصيصا لأجل هذا اليوم، مشطت شعرها الحريري وأسدلته على كتفيها، لتضع أحمر شفاه ما زادها إلا جمالا وأناقة. خرجت من غرفتها لتجد والدها وإخوتها الصغار يقفون وبجانبهم أمها وهي تحمل بين يديها كعكة مزينة بعشرين شمعة، غمرتها السعادة لأنهم لم ينسوا يوم مولدها، دمعت عيناها فراحت تعانق أمها وتقبل رأس والدها، طلبوا منها أن تتمنى أمنية، أغمضت عينيها لتلبي طلبهم، ثم أطفأت العشرين شمعة من عمرها. حملت حقيبتها وخرجت من منزلها متوجهة نحو جامعتها، لتجد أصدقائها يغنون ٱحتفالا بها ويقدمون هدايا لها، فرحت للغاية وشكرتهم جميعا واحدا تلو الآخر، لكن سُرعان ما ٱختفت ٱبتسامتها، وشردت تفكر، إلى أن أخرجتها صديقتها مما كانت فيه، لتسألها عنه، لكنها لا تعرف أيضا سبب غيابه! عند مغادرتهما الجامعة أخبرت صديقتها بأنها قامت بمراسلته فور ٱستيقاظها لكنه لم يُجب بعدُ على رسائلها، وقبل أن تنهي حديثها أحست بيدين تغمضان عينيها، ٱبتسمت أخيرا وصاحت بصوت عالٍ: – أحمد! أزال يديه عن عينيها، لتستدير نحوه بسرعة، كان مرتديا ثيابا تبلغ غاية الأناقة، ليمد لها باقة ورد وهدية، لمعت عيناها ببريق سحري، ورفرفت كفراشة؛ لأنه لم ينس تاريخ ميلادها، إنها الأنثى! سألها: -كيف تمكنتِ من معرفتي؟ ردت بنبرتها الطفولية، وٱبتسامة الانتصار تعلو محياها: -كشفتكَ عن طريق رائحة عطرك! -ماكرة أنتِ. ليضحك الاثنان معا، أما صديقتها فبقيت تحدجهما بٱبتسامة متمنية في داخلها لو تجد من يُحبها كحب “أحمد” “لليلى”!
ودعتهما صديقتها، لتترك العشيقين ينعمان بدقائق لوحدهما. بعد مغادرتها، طلب “أحمد” من “ليلى” أن تركب معه سيارته، فوافقت، ركبا معا، لتفتح الهدية. والمفاجأة أنها مجموعة كتب قيمة لطالما تمنت ٱقتناءها، فهو لم ينس يوم حدثته عنها، فٱشتراها وأهداها إياها في هذا اليوم المميز من حياتها! عانقته بشدة كعربون شكر وٱمتنان لما فعله لأجلها، ليضع قبلة على خدها، تملكها إحساس غريب حينها وٱحمرت وجنتاها خجلا. طلب منها مرافقته لمنزله ليريها مفاجأة أعدها لأجلها، ترددت لكن إلحاحه خلق لديها فضولا مباغثا جعلها توافق. صدحت موسيقى هادئة داخل البيت، طلب منها إغماض عيونها، لينحني أمامها ببدلته السوداء، طلب منها فتح عيونها لتجده حاملا بين يديه علبة بداخلها خاتم زواج مرصع بألماس، لم تصدق عينيها، فراحت تسأل نفسها «هل هو مجرد خيال أم حلم ناعم قد أستفيق منه في أي لحظة»، لكنه لم يكن خيالا أو حلما بل كان حقيقة جميلة ماثلة أمام مرأى عيونها! – أ تقبلين الزواج بمن شغفته حبا وهياما؟! – نعم، نعم، أقبل بك شريكا و حبيبا وزوجا! ألبسها الخاتم الذي ٱختاره لأجلها؛ شعرت ولكأنه ألبسها تاج التميز والانفراد، تاج يشع نورا، بعد سنين وعصورا. أعطاها خاتما آخرا لأجله هو. ٱلتقطا معا صورا للذكرى، ذكرى يوم خطوبتهما ! ٱقترب منها فقد أغرته شفتيها؛ بقبلة واحدة ٱستطاع ٱبتلاع زينة شفتيها، خارت قواها لتلك القبلة، فحملها بين يديه واتجه بها نحو السرير ليضعها فوقه، تجرد الاثنان من ملابسهما، أطال النظر في جسدها الممشوق؛ أردافها ثقيلة، ونهداها صلبتان من الشهوة، وفمها أحمر كحبة فراولة. أمطر وجهها بالقبلات، فٱختلطت أنفاسهما بنشوة الجنس، شعرت وكأن أنفاسها تتقطع، وٱزدادت نبضات فؤادها، وحدهما السرير ليلتها، فتذوقت لأول مرة طعم النشوة. نزلت قطرات دم فوق لحاف السرير، لتكتب خطيئتها في صحيفتها بدماء عذريتها ! عادت لمنزلها، وقبل أن تلج نزعت الخاتم من سبابتها ودسته في حقيبتها، لكي لا يقع بصر أحد أفراد أسرتها عليه. توالت الأيام بسرعة، وذات صباح تأخرت عن موعد الاستيقاظ فجاءت أمها لتوقظها، وجدتها غارقة في سباتها، فأيقظتها بصعوبة، استيقظت على دوار في الرأس، وشعور بالغثيان راودها، فهبت واقفة، بخطى متثاقلة باتجاه المرحاض، لتقع أرضا مغشيا عليها، صرخت أمها مستنجدة بزوجها، هب مسرعا لتفقد أمرها، ليجد ٱبنته فاقدة لوعيها، حملها بين يديه ووضعها على السرير، تفقد حرراتها، فلم تكن مرتفعة، طلب من أمها إحضار كأس ماء، لتفتح “ليلى” عينيها، رشفت بضع رشفات، حمد الأب اللّٰه، لكن أمها بقيت مستغربة مما حدث للتو، فٱبنتها لم يسبق لها أن فقدت وعيها، وهي تعلم أنها غير مصابة بأي مرض على الإطلاق، لكن ورغم ذلك طلبت من ابنتها مرافقتها عند طبيبة لتتأكد من سلامتها، فقلب الأم لم يطمئنها!
رفضت زيارة الطبيبة، مخافة التأخر على المحاضرة، فقامت من مكانها بمساعدة أمها وارتدت ملابسها، وخرجت. ٱلتقت بصديقتها “منى” فقصت عليها ما جرى بالتفاصيل المملة، صدمت صديقتها، وبقيت تحدجها بنظرات الاستغراب. – متى آخر يوم حضت فيه؟! – الحادي والعشرين من شهر مارس! فتحت هاتفها لترى تاريخ اليوم. – اليوم هو السابع و العشرون من ماي!
وتابعت: – أيعقل أن تكوني حبلى؟!
ٱمتقع لونها، وندت قطرات العرق من جبينها، لقد كان لها هم؛ دلت عليه قسمات وجهها.
اقترحت عليها أن تشتري تحليل الحمل من إحدى الصيدليات المتواجدة وسط المدينة، لتزيل الشك باليقين. دخلت غرفتها وأغلقت الباب، غير راغبة في التحدث مع أحد، فتحت حقيبتها لتجد التحليل الذي ٱشترته، بقيت شاردة تفكر في ما آلت إليه حياتها، وقفت لترمي خلفها تلك الأفكار التشاؤمية التي ٱستولت على تفكيرها. فتحت التحليل ووضعت بضع قطرات من بولها بيد مرتجفة، اعتراها خوف شديد من معرفة النتيجة، ما هي إلا بضع ثوانٍ ليظهر خطان أحمران صغيران، فتذكرت قول الصيدلانية وهي تشرح لها أن الخط الصغير سالب والخطان الصغيران موجب! تجمدت في مكانها ولكأنها تمثال، قالت في نفسها “سأصبح أمّاً”…! رن هاتفها فأخرجها مما كانت فيه، فزعت من مكانها متمنية أن يكون هو، لكنه لم يكن هو، بل “منى”!
– ما نتيجة الإختبار؟! – موجب ! – أنتِ حامل إذن! – نعم، أنا حامل.
مجرد أن نطقت هاته العبارة، لتسمع شيئا سقط خلف باب غرفتها، شعرت بٱنقباض أنفاسها، وٱستولى عليها الخوف وٱعتراها الرعب، فودعت صديقتها بسرعة، وحاولت فهم ما يحدث، ليفتح الأب الباب، وحمم غضبه تتدفق، بقيت جامدة في مكانها لا تحرك ساكنا، سوى النظر بعينين جاحظتين، رمقها بنظرة تبلغ من ٱمتلائها بالتهديد والوعيد أنها قرأت فيها عنفا شديدا، فأدركت أنه سمع بما دار في المكالمة! أمسكها من يدها، وسحبها نحوه بقوة، وهو يردد أنه سيأخذها عند طبيبة النساء للتأكد مما سمعته أذناه، بقيت تتوسله وتبكي، لكي تشرح له أمرها، رغم أنه لم يعد شيء لتشرحه. تعثرت قدماها أثناء هبوطها من الدرج، لتسقط مغمى عليها، بقي جامدا كوتد من دون حراك. فتحت عينيها فوجدت نفسها في غرفة ليست كغرفتها، وسمعت أنين أمها بجانبها، لتدرك أن والديها علما بسرها. كفكفت الأم دموعها الغزيرة، ثم رفعت بصرها نحو ابنتها، بعينين مورمتين لتسألها بعاطفة الأم، عن السبب الذي دفعها للاقبال على مثل هاته الفضيحة! لم تجد جوابا لهذا السؤال، فٱكتفت بذرف الدموع هي الأخرى، حملت الأم حقيبتها وأخرجت نقوذا ورقية، لتمدهم لها، بقيت شاردة تحاول ٱستيعاب ما يحدث حولها، أمسكت الأم بيد ٱبنتها ووضعت تلك الورقات داخلها، لتقول لها بنبرة حازمة:
-إياك والعودة لمنزلنا، فأبوك لم يعد يود رؤيتكِ! نزلت هاته العبارة على مسمعها كالصاعقة، تمنت حينها لو ٱنشقت الأرض وٱبتلعتها. خرجت من المستشفى لوحدها، تجر أذيال الحزن خلفها، حملت هاتفها لتتصل به، بقيت تستمع إلى الرنين على الطرف الآخر من الخط لثوان طويلة، ثم وضعت الهاتف في يأس، وأقنعت نفسها بأنه لا يجيب لأنه مشغول، محاولة طمأنة نفسها وٱلتماس الأعذار له! لم تجد مكانا تلجأ له، فذهبت لبيته ووقفت أمام بابه تنتظر عودته من العمل، طال انتظارها والمارة يحدقون بها، أعياها الوقوف فجلست في عتبة الباب تفكر في ما آلت له أمور حياتها، ليخرجها صوت سيارته مما كانت فيه، رفعت بصرها صوبه، ثم طفقت تجري نحوه، ٱرتمت تعانقه وتبكي، لم يفهم ما بها، حاول تهدئتها، ومسح عبراتها المتساقطة على ملامحها الجميلة والبريئة. ولجا معا المنزل، أجلسها ومد لها كأس ماء، ليسألها عما جرى؛ نبست بصوت خفيض:
-رحمي يحمل طفلك…!
ثم قصت عليه ما حدث لها، لم يتأثر أيما تأثر، سوى أنه ثبت عينيه عليها بأسلوبه المتغطرس، لينبس أخيرا بنبرة وقحة: -الحل الوحيد الذي بين أيدينا هو أن تُجهضي ما بداخلكِ! لم تستطع استيعاب ما تلفظ به، عقدت الصدمة لسانها، وشلت أطرافها عن الحركة، ازدردت خيبتها بصعوبة، ٱختنقت وشهقت، فنزلت دمعاتها الساخنة على وجنتيها، جثم على ركبتيه في الأرض، وحاول مسح دموعها، لكنها دفعته هاته المرة بكل ما أوتيت من قوة، وقفت من مكانها، وأزالت العقد الذي كانت تزين به عنقها والذي بداخله خاتم خطوبتهما الوهمية، رمته في وجهه، لتعلن له أنها لن تضع قدمها في منزله بعد الآن، وغادرت المكان والألم يعتصر فؤادها.
خرجت من البيت خائبة منكسرة، وفي عينيها الدامعتين نظرة حزن، وبينما تنسج من خيوط الهم والأسى ما تنسج وهي تائهة الأقدام، لا تعرف مصيرها، ولم يعد لها مكان تلجأ له، أدركت أخيرا أنها فقدت والديها؛ أعز ما تملك لأجل منخوب، يهفوف، يهاب الأنام. تركها وهي في مسيس الحاجة له، تركها في منتصف الطريق، حسبته رجلا، لكنه لم يكن سوى ذكر لعين! لطالما حلمت أن تتزوج “أحمد” ويحمل رحمها جنينا، فتضعه ويكون نسخة طبق الأصل عن والده، و تسميه بالاسم الذي اختاراه معا له، لكن أحلامها عصفت بها الحياة. لم تستطع التخلي عن ما بداخل أحشائها، فهو لا ذنب له، سوى أنه نتج عن شهوة عابرة. شعرت بأن الحياة انهالت عليها بمخالبها، فبين ليلة وضحاها وجدت نفسها مشردة بين الدروب والأزقة وهي حبلى، كبر بطنها يوم بعد يوم، وزاد عناؤها؛ تعرضت للسرقة من طرف قطاع طرق، سلبوا هاتفها وحقيبة يدها، فلم تعد تملك شيئا، سوى تلك الملابس البالية التي ترتديها. صارت تُقبل على القمامة لتنبش عن بقايا الطعام، لتسد رمق الجوع، ليس لأجلها، بل لأجل القابع داخل أحشائها، فهي لم تعد تأبه لجسدها الهزيل، همها الوحيد أن يعيش جنينها، رغم علمها بأنها لن توفر له كل ما يحتاجه، لكنها متيقنة من أنها ستحبه حبا جما. مرت تسعة أشهر، على مكوثها في الشارع؛ فراشها الأرض، وغطاءها السماء، تُركت وحيدة تكابد مرارة الفراق والخذلان، وبرد الليالي والجوع، والحنين لحضن أسرتها الدافئ؛ افتقدت ضحكة أمها وبسمة أبيها، رائحة أمها ونفس أبيها، حديثها وأمها ونقاشها وأبيها، نصائح أمها ووصايا أبيها، همس أمها وبحة صوت أبيها، ملامح أمها وتعابير وجه أبيها، حضن أمها وعناق أبيها، اشتاقت لوجودهما بجانبها، حبهما ورعايتهما ومساندتهما لها، ٱفتقدتهما بشدة. بعد أن خيم الهدوء على شوارع المدينة، أجاءها المخاض في ليلة تنهدت الغيوم فيها في صمت وشرعت في البكاء، ولكأنها تبكي لحال هاته المسكينة، كانت تصرخ ملء قوتها، بعد دقائق من الألم الشديد، وضعته ذكر يحمل نفس ملامح والده الذي ترك أمه وحيدة، تنهدت بعدها تنهيدة حارة، نفثت فيها حسرة الأيام ومرارتها. بعد تلك الليلة الماطرة، ظهرت السماء بزرقتها الساطعة مرة أخرى وألقت الشمس بأشعتها الساخنة على الأرض، كانت تضم وليدها بين أحضانها، وهي تشمه وتقبله بحب. كم من الشهور قضت تمني النفس بعناق يطفي شرارة البعد والفراق، لكن شيئا من هذا لم يحدث، فألقت على طفلها اسم “أحمد”؛ رغم تخليه عنها ورغم ما ألحقه بها من ضرر، إلا أنها لم تنسى ذكراه، فهي لازالت تتذكره عندما كان يحادثها، يلاطفها، ويحنو عليها. ذات ليلة قمراء، وهي تدندن لمولودها أغنية «نيني يا مومو حتى يطيب عشانا إلى ما طاب عشانا يطيب عشا جيرانا»، وفي هذه الأثناء، شعرت بيد تشدها من الخلف، فاستدارت لتجد رجلين قويا البنية؛ حاول أحدهما سلب فلذة كبدها منها، قاومته لكنه ضربها بقوة جعلت قواها تخور، لتسقط مغشيا عليها. بعد أن فتحت عينيها، لم تجد رضيعها، فبكت بكاء مرا على غير مرأى من أحد، وراحت تستنجد وتستغيث لكن لم يعرها أحد اهتماما، ارتأت أن تتجه لمركز الشرطة، لكنهم ٱكتفوا بأخذ أقوالها، ووعدوها بأنهم سيجدون ٱبنها…، ٱنتابها حزن لا حد له، فصارت تدور بين الأزقة وتبحث يمنة ويسرة، وتنتحب لفقد قطعة من روحها، واجهت مرة أخرى الخسائر بالعبرات! أنهك وجهها الذبول، وٱختفت إشراقته فهي التي لطالما كانت بشقاوة طفل صغير، ٱشتاقت لوحيدها الذي تعلقت به لدرجة الجنون، صارت تكرر تلك التهويدة التي عودته على سماعها صباح مساء، وهي تئن أنينا مؤلما، بقيت على هاته الحالة إلى أن فقدت عقلها، جُنت المسكينة، ففؤاد الأم الهش الذي تحمله بين أضلاعها لم يسعفها على تجاوز ما فقدته، فقد يدفعنا الحب للجنون!

اترك رد