في الخطاب الحركي والرياضة على ضوء المونديال؟
بقلم: الحبيب عكي
في الحقيقة، لقد كان مونديال قطر 2022 هوسا رياضيا وسياسيا عالميا جارفا بكل المقاييس وعلى العديد من الأصعدة، وقد ساعد على انتشاره واستحكام تفاعلاته المتوترة بعض الشيء تلك الماكنة الإعلامية المدججة بأكثر من ترسانة دعائية تفجرت قذائفها وتطايرت حممها البرغماتية في ذلكم الكم الهائل من السمسرة والاحتكار الذي منع حتى ما كان سائدا في أزمنة سابقة من شيوع حقوق نقل المباريات مجانا إلى كل شعوب العالم. كما ساعد على ذلك أيضا وبشكل أكبر نفسية الشعوب المرهقة بالمستعصي من الحروب والأوبئة والأزمات، فأضحت في أمس الحاجة إلى كثير من الفرجة والفرحة التي تأتت لها في هذا الدوري الرياضي العالمي الممتاز وما انعقد فيه خاصة من ظروف الأمن والاطمئنان وكرم الضيافة العربية غير المعهودة في كذا تظاهرات عالمية؟.
احتدم النقاش وحمي الوطيس بين الفرقاء أكثر من المنازلات الرياضية نفسها ومفاجئاتها التي أقصت جل الفرق الكبرى من دور المجموعات فحرمتها منذ البداية من المعهود من صولاتها وجولاتها واستعراضاتها وهيمنتها الرياضية والسياسية، وكان على دول الفرق الثالثية الصاعدة مناقشة أمور كبرى في حجم التظاهرة العالمية وأهدافها من مثل: أين نحن من السلم العالمي الذي ننشده والحروب والتوترات تستعر في العديد من مناطق العالم بقدر ما يستعر الحدث؟، هل أمن الشعوب يتحقق فعلا بالساحرة المستديرة أم بلقمة العيش المرة ومسجد آمن للصلاة ومقعد للدراسة وسرير للاستشفاء..؟، لماذا حصة الأسد من الفرق المشاركة في كأس العالم تمنح دائما للدول الغربية لا لغيرها أو مع غيرها؟، لماذا كل هذه السمسرة والاحتكار حتى في نقل المباريات إلى كل شعوب العالم وقد كان حقا لها ولم يعد؟، لماذا إقحام بعض الظواهر المشينة التي تحاربها التظاهرة الرياضية كالتعصب والشغب والانحلال.. في بعض الفعاليات، وفرض ذلك على الشعوب بدل احترام خصوصياتها الثقافية؟. ما دخل اعتمالات الربيع العربي الظاهرة والخفية الثائرة والمضادة في كل ذلك؟.
لكن، كل ما ناقشه بعض الحركيين الإسلاميين – مع الأسف ولا أعمم – هو مجرد بعض القشور التي تنم ربما عن عدم فهم الموضوع أصلا ولا تقدير خطورته وأبعاده، ولا رغبة الدخول في صلبه والخوض في مطباته التي يفرضها العصر، فكل ما كان من النقاش مجرد بعض الشطحات وإن كان بعضها مهما فهو على الأرجح غير مفهوم أو مؤول تأويلا غير صحيح من مثل: ” ما حكم سجود اللاعبين في الملاعب؟، كيف يسجدون أمام الجماهير بمآزرهم الرياضية؟، ما حكم أموال اللاعبين التي يجنونها من الكرة والمنازلات عموما؟، ما حكم الجوائز المالية الضخمة التي تمنحها “الفيفا” للفرق الفائزة والمتصدرة وأندية اللاعبين؟، أين نحن من عقيدة الولاء والبراء في تشجيع فريق على حساب فريق آخر أو على الأصح دعم ومساندة لاعب غربي على آخر عربي؟، وكذلك ظهر بعض الخلاف العقدي اتجاه الداعية العالمي المجاهد “ذاكر نايك” بلغ حد التحريض من طرف ذلك الاتجاه الديني على عدم متابعته؟، كما شاهدنا بعض التعبئة للفريق العربي المنتصر (المغرب)، واستمداد النصر له بالدعاء عبر مختلف الزوايا والمساجد؟.
في حين أن الأخرين في المعسكر الحداثي العلماني قد جيشوا معسكرهم وحسبوا كأس العالم فرصة سانحة لتفسيخ وتفسيق العالم، فلم يدخروا جهدا ترافعيا و تحريضا إعلاميا بل سلوكا ميدانيا في إثارة ودعم أمور لا أخلاقية ولا تمت هي أيضا للكرة والرياضة وتعارف الشعوب وتلاقح الحضارات بأية صلة، ومن ذلك ولا أعمم: رفضهم منع الخمور والمثلية والدعاية لها في المونديال؟، رفضهم بتك أذان “ماكرون” في منصته بشعار لا إله إلا الله محمدا رسول الله ردا على إساءته إلى رسول الإسلام والمسلمين،؟ رفضهم رفع علم فلسطين والشدو لعزتها في المدرجات؟، رفضهم طرد إعلام الكيان الصهيوني ومحاربة التطبيع؟، تشجيعهم خروج المرأة والفتيات للفرجة في المقاهي والتظاهر في الساحات رغم ما يلف ذلك من بعض التجاوزات؟. وقد دخل في دعم هؤلاء العديد من زبانيتهم الغربيين، فقاطع بعضهم نقل المباريات عبر الشاشات الكبرى في ساحات عواصمها.. وبكى بعضهم بكاء التماسيح على حقوق المرأة والعمال في قطر الخير.. وعلى حقوق الإنسان والمثلية وكأنهم لا يدركون ماذا يفعلون في “أوكرنيا” بكل همجية أو أن فعل ذلك هو عين الحقوق والإنسانية؟.
الدلالات والخلاصات في كل هذه المعركة الحضارية، أنه يبدو أن هناك بعض العزلة والغربة في الخطاب الحركي الإسلامي وعدم جرأته على اقتحام الموضوع ولا التعاطي مع الهموم اللحظية واليومية لفئات عريضة من الناس خاصة الشباب، وبالتالي يطرح سؤال مدى فهم لغتها التعبيرية لهذه الفئات.. مكنوناتها وأشواقها فبالأحرى سيكولوجيتها وما قد يكمن ورائها ويترجم عبرها من مواقف وتوجهات ظرفية قد تظهر عابرة ولكنها دائمة لا تكاد تفارقهم في كل المباريات والفرق والدوريات التي لا ينفكون يتابعونها في المقاهي والقنوات والهواتف والشاشات؟. فماذا أعد الحركيون لمساعدة هذه الفئات الشبابية؟، لإفهامها الموضوع على حقيقته؟، لانتشال الممكن منها والراغب في ذلك؟، للترافع عنهم ضد ما هو أكبر وأخطر مما يغذي ذلك كعجز السياسات العمومية التي لا زالت تفرخ البطالة والغلاء.. الانحراف التربوي والفني والحرمان الترفيهي والتضييق على بعض القيم والحريات.. وما التناقضات الصارخة لبوليفار “طوطو” وسجدات اللاعب الخلوق “زكرياء بوخلال” إلا نموج ذلك؟.
وكمال الصورة في هذا المونديال، فكما أن هناك من الحركيين والناس عامة من لم يخرج إلى المقاهي للفرجة الجماعية.. من لم يلبس قميص الفريق الوطني المظفر.. ولم يهتف مع الهاتفين والهاتفات في الساحات.. من كان ينتظر متى تخرج الفرق العربية من التظاهرة حتى تهدأ العاصفة ويهمد البركان.. من كان يضع يده على قلبه خوفا من الحكومة أن تمرر مزيدا من قراراتها القاسية التي تضرب بعمق في القدرة الشرائية للمواطن؟، في الوقت الذي كان فيه كل هذا، فقد كان هناك أيضا وبالمقابل، من كان ضد كل ذلك.. من ألبس صغاره وكباره قمصان الفريق الوطني بكل “تمغربيت” قشورها وجذورها.. من جعل بيته مسرحا للترفيه المشروع والتربية على المواطنة الصادقة تردد فيه النشيد الوطني غير ما مرة.. من استضاف الجيران والأصدقاء وأكرم فرجتهم وفرحتهم بما لذ وطاب وتيسر من المكسرات والمشروبات.. من فتح مقرات الأندية والجمعيات للفرجة العمومية الهادفة المحترمة.. من كانت له من الشيوخ عبر المواقع والقنوات يوميات للمونديال بالصوت والصورة..؟. فعسى أن تكون مثل هذه الخطوات الإيجابية مدخلا مشرعا لإعادة النظر في ما بين الدعاة الحركيين والرياضة والتظاهرات من وصل وفصل، فإنه باب تجديد الخطاب والدعوة في نفس الوقت.. وهو واجب الوقت؟.