لا سلام بدون هدنة ولا هدنة من غير ضمانات

بقلم: لحسن الجيت

حينما كانت  تستعر النيران في الشرق الأوسط في إطار ما أصبح متعارف عليه بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي كانت الهدنة تدخل في سوق المزاد العلني يعرضها من كلن له ضلع في إشعال نار الفتنة لمساومة بعض الدول وقبض الثمن منهم لكي تستقر الأوضاع في المنطقة برمتها وإلى حين. فالهدن التي أبرمت كانت أصلا هشة لأن الهم اقتصر فقط على الخروج من المأزق الذي يفرض نفسه، وبعدئذ لها مدبر حكيم وساعتها يفعل الله ما يشاء. ولأن التسويات كلها اتخذت هذا المنحى لم تكن هناك ضمانات تحول دون عودة التوتر وبالتالي أصبح العنف عبارة عن دورة دموية كما هي العادة الشهرية عند النساء.

واليوم هل ذات السيناريو قد يعيد نفسه في معركة اختاروا لها عنوانا هائجا وسموه “بطوفان القدس” الذي انقلب إلى طوفان على غزة وأصبح الجميع يتباكى على حربإبادة يكتوي بنيرانها المدنيون الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني. فالقضية الفلسطينية قضية عادلة لكنها تشتكي من ظلم ذوي القربي. ولرفع هذا الظلم عن هذا الشعب لابد من إعادة النظر في المقاربات السابقة ولابد من التفاوض على هدنة توفر الضمانات اللازمة والضرورية   لاستمراريتها لخلق أجواء إيجابية وهادئة للتفاوض على حل يضع حدا لدائرة العنف والعنف المضاد، ولن يتأتى ذلك إلا بحل عادل ودائم ونهائي.

إذن كيف يمكن تحقيق هدنة تختلف عن سابقاتها وما هي الآليات التي يجب الاستئناس بها للوصول إلى المبتغى. هدنة يعول عليها لكي تمنع الصدام والتصادم بين الأطراف المتنازعة والماسكة بأزرار البنادق في خنادق متقابلة على مرمى حجر. ولعلي في هذا الباب وفي هذه الظروف العصيبة والمآسي الإنسانية ولحقن دماء الأبرياء الذين لا ذنب لهم، لابد لي من هذا المنبر أن أؤكد على أنه أصبح من اللازم حشد الجهود الإقليمية والدولية على ضرورة التحرك الآن وليس غدا في اتجاه مجلس الأمن الدولي لإنشاء قوات أممية تتواجد كقوات للفصل بين قطاع غزة ودولة إسرائيل. تواجد مثل هذه القوات سيوفر الضمانات المطلوبة للتحكم في الوضع بعيدا عن أية مناوشات استفزازية من هذا الطرف أو ذاك.

وفي هذا الصدد، قد تجد المملكة المغربية مكانا لها في هذه القوات الأممية، ولم لا تتولى ريادتها لاعتبارات أهمها أولا أن المغرب راكم تجارب مهمة في العديد من بؤر التوتر في العالم وكان له دور فاعل في إعادة الاستقرار بعد أن استشهد جنود مغاربة في مهمات إنسانية، ثانيا إن الشروط المطلوبة لتولي هذه المهمة النبيلة تتوفر في المغرب أكثر من أي بلد آخر مع حفظ أهمية مكانة ومنزلة بعض الدول. فالمغرب بقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع ويحظى بثقتهما ويتواصل معهما بنية صادقة بعيدا عن الحسابات السياسية أو المصالح الضيقة. ضمن هذه الآلية الأممية ينبغي النظر إلى أهمية حضور دول أخرى لها وزنها وارتباطاتها الإقليمية والدولية منها مصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة، من دون استثناء قوى دولية وازنة ومحايدة في هذا الصراع الدائر في الشرق الأوسط.

الهدنة ليست هدفا في حد ذاته وإنما هي وسيلة وقنطرة للعبور إلى بر الأمان. ولن يكون هناك مفعول حقيقي لهذه الهدنة إلا إذا توجت بعمل جبار يعيد الطرفان إلى طاولة المفاوضات من منطلقات تجمع ولا تفرق وعلى أرضية مشتركة قابلة للأخذ والعطاء وتضمن الحقوق المتبادلة من دون حيف أو إقصاء. وفي هذا الشأن يمكن استئناف المفاوضات على أساس اتفاقات أوسلو التي شرع في تتفيد بعض بنودها على أرض الواقع منها السماح للقيادة الفلسطينية بإقامة سلطتها الوطنية على ما سمي آنذاك بمنطقة “أ” وهي تدير الشأن الداخلي لستة مدن فلسطينية: رام الله، الخليل، بيت لحم، نابلس، طولكرم وقلقيلية.

مما لا شك فيه أن اتفاقات أوسلو، المتفق عليها أصلا بين الطرفين، قد توفر الجهد والأهم من ذلك أنها توفر الوقت بحيث لم يعد هناك مجال للانتظار . فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. وهناك متربصون ينتظرون عثرة ما لينقضوا على الهدنة من المنطقة وخارجها. فلا ينبغي الاشتغال ببطيء أو بتلكؤ لأن هناك عدوا ما ينتظر له أجندته وله أتباعه في إطار ما يعرف بولاية الفقيه.

صحيح أن إسرائيل قد تقول بأن هناك إشكالية معقدة وقد تدفع باتجاه يفيد بأنه لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه. فهناك من يومن باسترجاع فلسطين التاريخية وإبادة إسرائيل، وهناك من يومن بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967. هذه المقاربات المتناقضة عند الفلسطينيين لا يمكن إنكارها لكن في نفس الوقت لا يمكن الركون عندها وإبقاء المنطقة رهينة للمجهول وهو الأسوأ. منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وقد اعترف العرب بها جميعا في قمة الرباط عام 1974، وهي بذلك المفاوض الوحيد الأوحد بتزكية عربية. كما أن هذه التزكية أصبحت مدعومة بسند عربي آخر اتخذ في قمة بيروت عام 2002 تمثل في المبادرة العربية التي طرحها عاهل المملكة العربية السعودية الملك عبدالله والتي تعترف بدولة إسرائيل .

وإذا كانت الهدنة بحاجة إلى مواكبة، فعملية السلام هي بحاجة إلى رعاية وإلى من يحضنها للحفاظ على طراوتها. وهنا لابد من تعيين مبعوث خاص لأمين عام الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط يكون على صلة مباشرة بين طرفي النزاع ومع دول المنطقة المناصرة والمناوئة للاستئناس بها في إعطاء شحنة من حين لأخر من أجل إغلاق دائرة العنف وإشاعة السلم والسلام الدائم في هذه المنطقة الملتهبة.

إجمالا، الظرفية لا تحتمل تجييش المشاعر وصب الزيت على النار التي لا يكتوي بها إلا الأبرياء. ليس هناك أسهل من أن يخرج عامة الناس للتظاهر وهناك من يندفع بعاطفته ويخرج للتظاهر وهو لا يعلم من أين بدأت المأساة وإلى أين ستنتهي وعلى حساب من. أسئلة لا يطرحها الإنسان العادي ولا تخطر له ببال. العابثون بمشاعر الناس هم من يتحملون المسؤولية ويشعلون نار الفتنة ليس لخدمة القضية الفلسطينية وإنما لأجندات أقل ما يقال إنها غير وطنية. ومن كان مومنا بقضية الشعب الفلسطيني فليسقط الكوفية عنه ويستبدلها ببندقية فلسطينية. أما تحرير فلسطين من شوارع الرباط فهي مؤامرة وجريمة مكتملة الأركان. فالمغاربة بإيمانهم الفطري يناصرون القضية الفلسطينية لكن الفلسطينيين لا نراهم يبادلون المغاربة نفس الموقف في قضية وحدتهم الترابية بل هناك منهم من يرى أن تحرير القدس يمر عبر تحرير الصحراء الغربية. وخالد مشعل، القيادي في حركة حماس، لا يتردد في تحريض المغاربة بدعوتهم إلى النزول إلى الشوارع للضغط على حكومات الدول المطبعة ولطرد الإسرائيليين من المغرب وغيره والاحتجاج أمام السفارات الأمريكية. إنها علامة فارقة تعبر بلا حياء عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ومن يدري أنها البداية.

اترك رد