الإيمان والكفر والنفاق: أية صلاحية لهذه المعايير الأخلاقية في سياق القضية الفلس.طينية؟

بقلم: فؤاد هراجة

ينزعج معظم الحداثيين والمعتنقين لمذهب الإنسانية، من تقسيم الناس على أساس الكفر والإيمان، ويعتبرون أن هذه المعايير لم يعد لها مسوغ في دولة المواطنة حيث المواطن يستمد حقوقه من انتمائه للدولة لا من عقيدته التي يحملها، وهذا أمر أصبح مسلما به في إطار الدولة القومية التي تنص قوانينها على احترام المعتقدات وتضمن أداء الشعائر. غير أن استدعائنا لهذه المعايير القرآنية في هذا المقام، مخالف تماما لكل توظيف تقليدي يتغيا تصنيف الناس والزج بهم في دوائر منفصلة.

إن المآسي التي تمر منهما فلس.طين ولبنان الجريحتين، والتواطؤ المكشوف لأنظمة سايكس بيكو، والصمت المطبق للأغلبية الساحقة من شعوب المنطقة العربية، والانخراط الفج لجوقة من المثقفين والسياسيين في تزييف الحقائق، وشن حرب كلامية على المقاومة، وتحميلها كل ما يقع من إبادة جماعية وتجويع وتهجير وتدمير… في المنطقة؛ كل هذا، يدفعنا باعتبارنا مهتمين بالأخلاقيات المعاصرةإلى البحث عن معايير قمينة بأن تصف هذه الأفعال وتحكم على أصحابها بما يستحقونه من حكم أخلاقي.

إننا لا نجد وصفا دقيقا يليق بالصامدين في لبنان وفلس.طين غير الإيمان الصادق، ولا نرى وصفا لائقا بالمتواطئين والمزيفين والمتخاذلين في هذه الحرب غير الكفر البواح، كما لا نُرَجِّحُ وصفا في حق المحايدين الصامتين غير النفاق السافر. وهنا لابد من ان نقف لبيان ما نقصده بالإيمان والكفر ثم النفاق بعيدا عن قواميس الإيمانيات والعقائد، حتى لا يغتنمها محترفو التزوير وهواة السباحة في الماء العكر، ليزعموا أننا بنعتهم بالكفر نستبيح دمهم وندعوا الرعاع لقتلهم وسلب أموالهم.

دعونا إذن نرفع الطَيَّةَ عن هذا النسيج المصطلحي بفهم جديد، ونرى ما الذي نقصده بمصطلحات الإيمان والكفر والنفاق في سياق ما يجري في فلس.طين ولبنان ؟

مفهوم الإيمان

من المعلوم في اللغة أن الإيمان هو التصديق الجازم بالشيء الذي لا يشوبه شك أو ريب. كما هو معلوم أيضا أن لفظ إيمان يستعمل في القضايا المجردة التي لا تخضع إلى مقاييس العقل ولا تدخل في مجاله. على ذلك فالإيمان هو حمل فكرة في القلب والربط عليهابإحكام. على هذا الأساس، نقول أن مشروع المقاومة التحريري والتحرري في ظل تباين القوى والإمكانيات والقدرات، وفي ظل التواطؤ الرسمي العالمي أنظمة ومؤسسات دولية، هو مشروع في عمقه إيماني ولا يخضع للعقلانية، بالتالي لا يمكن أن ينخرط فيه أو يدعمه إلا مؤمن صادق بالقضية الفلس.طينية إيمانا جازما قاطعا لا يداخله أدنى شك. إن المقاومة التي ندبت نفسها لتكون رأس حربة هذه الأمة، وبذلت الأنفس والأموال لمواجهة الغرب الاستكباري الإمبريالي المتوحش للحد من أطماع بِنْتَهُ المراهقة المذللة “إسرائيل”، وإفشال كل مخططاتها التوسعية في المنطقة، ما كان لها أن تصمد لولا صدق الإيمان الراسخ واليقيني بمستقبل تحرير فلس.طين. هذا المستقبل الذي تحجبه كل الحسابات جيوسياسية والعسكرية العقلانية، لكن يُجَلِّيهِ الإيمان الصادق والبصيرة المخترقة لكل الحجب المانعة عن الرؤية. وهذا ما حصل عبر التاريخ مع كل الأمم والشعوب التي آمنت بقضاياها المصيرية. بَيد أن ذات الإيمان يتضاعف إلى ما لا نهاية عندما يكون موصولا بقدرة مطلقة وهي الله القدير مدبر السماوات والأرض، وبحياة خالدة بعد الموت في جنات النعيم.
والنتيجة، أنه لا يمكن لأي قوة عسكرية أو سياسية أو عقلانية في العالم أن تقنع المؤمن بقضيته، بأن يتنازل أو يتخلى عنها، بَلْهَ أن يساوم فيها. بالتالي فإن الاختلاف بين المقا.ومين والمتخاذلين والصامتين هو اختلاف جوهري في المنطلقات بين المبدأ والعاقبة الحسنى، مقابل المصلحة المظروفة بالزمان والمكان(الدنيا).

مفهوم الكفر

الكفر في اللغة من كفر يكفر أي غطى يغطي، ومنه قولنا: “كفر الفلاح الحبوب” أي عطاها بعد زرعها حتى لا تلتقطها الطيور أو تجرفها المياه. وعليه فالكافر هو كل شخص وضع غطاء على قلبه وحجبه من نور الإيمان، ونَصَّبَ عقله دَرَكياً لمنع القلب من أي تجربة إيمانية. على ذلك، فإن الكافر يحصر نفسه في بُعْدٍ واحد، ألا وهو البُعدُ العقلي الذي لا يقتنع(الاقتناع//التصديق) إلا بالحسابات البراغماتية المادية، ويتبرم من كل الأبعاد القلبية العاطفية الوجدانية التي تكون هي الوقود والدافع والمحفز في الحالات التي تنعدم فيها التوازنات وعلى رأسها حروب التحرير. إن عدم انخراط الأنظمة العربية المطبعة وغير المطبعة ومعها جوقة المثبطين “العقلانيين” في محور المقا.ومة، نابع بالأساس من كفرها بقضية فلس طين أولا، وكفرها بخيار المقا.ومة ثانيا؛ ما يعني أن هؤلاء لا يؤمنون قطعا بالقضية الفلس.طينية، ولا بالآلية الكفيلة بتحقيق التحرر من ربقة الصهيونية العالمية، واحتثاث جرثومة إسر.ائيل التي تسببت في سرطان الفُرقَة وحالت دون أي إقلاع تنموي ونهضوي في المنطقة العربية والإسلامية. بلغة واضحة وصريحة هؤلاء كَفَرَةٌ بالقضية الفلس.طينية ومقا.ومتها، وفجرة يبيعهم لوطن لا يملكونه. أما انتظارنا إياهم لنصرة القضية، فمَثَلُهُ كمَثَلِ الذي ينتظر من الخنفساء أن تلد غزالا!

مفهوم النفاق

النفاق في اللغة مصدر مشتق من فعل نافق ينافق، ومعناه مخالفة الظاهر للباطن ومنه قول العرب نَافِقَاءُ اليربوع أي مخبؤه الذي يدخله من باب ويخرج من باب آخر أو أيواب أُخَر. على ذلك، فالمنافق له على أقل تقدير وجهان. وجوهر النفاق يكمن في القَولِ أو الفِعلِ بخِلافِ ما في القَلبِ مِن الاعتقادِ، والمُنافِقُ هو الذي يَستُرُ كُفرَه ويُظهِرُ إيمانَه. وقياسا على ما سبق من توسيعنا لدلالات الكفر والإيمان في سياق ما يجري، نقول إن المنافق هو الشخص الذي يظهر إيمانه بالقضية الفلس.طينية، ويظهر إيمانه بالمقا.ومة، لكنه في باطنه يتمنى لو أنه استيقظ ذات صباح فوجدها منتهية. إنه ذاك الذي يردد لازمة مفادها ” نعم المقاومة مشروعة ونحن مبدئيا لا نرفضها، ولكن حين تستكمل شروطها” ثم يعضد أطروحته بدعوتنا إلى المقارنة بين خسارات المقا.ومة وحاضنتها مقابل خسائر العدو، ليخلص إلى القول بألا جدوى من المقاومة، ما دامت شروط توازن القوى مستحيلة التوفر. بالتالي فهو لا يرى مانعا من التسليم بالأمر الواقع والتعايش معه، ثم القبول بفتات الفتات! وهذا لعمري أخطر من الكفر بالقضية، لأن الكافر بالقضية على الأقل يبقى في دائرته، أما المنافق فيدخل دائرة الإيمان بالقضية ليفسد هذا الإيمان إما بإضعافه أو إفساده. فالحذر! الحذر! من خطاب المنافق الذي يظهر تعاطفه مع القضية الفلس.طينية، ويضمر كفره بها، ويركب خيار هدمها وتثبيط أهلها من داخل الدائرة لا من خارجها. فضلا عن ذلك، فقد يدخل في دائرة النفاق سواد الأمة الذين يخالف قولهم سلوكهم، عندما يبدون تعاطفهم مع القضية غير أنهم لا يبذلون في سبيلها شيئا؛ لا يقاطعون بضائع صهيونية، ولا يحضرون مسيرة ولا وقفة احتجاجية، ولا ينشرون حتى إجرام الصها.ينة على صفحاتهم، بَلْهَ أن يخصصون جزءا من أموالهم لدعم المقاومة، أو يكرسون فكرهم ومواقعهم الاجتماعية لدعم ونصرة القضية.

خلاصة
لقد أضحى بإمكاننا بعد هذا البيان والتبيين أن نُدخِل معايير الكفر والإيمان والنفاق في الحقل التداولي للقضية الفلس.طينية، فَنُعْزي صمود المقا.ومة إلى الإيمان الصادق لأصحابها، ونعزي تواطؤ وخذلان الأنظمة والحكام لكفرهم البواح بالقضية، كما نعزي مخالفة أقوال السواد الأعظم للأمة لأفعالها تجاه أم القضايا فلس.طين إلى مرودهم على النفاق، فإذا لقوا المساندين للمقاومة قالوا إنا مساندون، وإذا خلوا إلى الكافرين بها قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئين!
فلا مناص اليوم من هذا الزيال حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من القضية، ولا نكرر كالأغبياء البلداء تجربة مقاومة الاحتلال في بلداننا حين قاومنا المستعمر وأخرجناه من الباب، فعاد ليدخل لنا من النافذة عبر نخبة حاكمة من المنافقين الذين خدعوا الوطن وخدعونا وما خدعوا إلا أنفسهم وما يشعرون! لهؤلاء نقول آن إِبَّانُ سقوط الأقنعة، ستنتصر المقا.ومة، وستسقط الصهيو.نية، وتسقطون معها تباعا؛ هذا هو إيماننا الراسخ الذي لن يتزحزح بإذن الله، ولن نتزعزع عنه قيد أنملة.

تعليقات (0)
اضافة تعليق