عبر الأزمان والمجتمعات ظلت الصحافة مهنة للمتاعب بالنظر للمعارك التي تأخذها على مختلف الجبهات إجتماعيا واقتصاديا وسياسيا دون أن نغفل مراسلي الحرب الذين يتعرضون بشكل مباشر إلى الهلاك بالموت المحقق أو الخروج من التجربة بعجز متفاوت الخطورة وبنسب مئوية مختلفة.
لقد عرفت الساحة المهنية الصحافية وما تزال ظواهر شاذة في العديد من البلدان خاصة تلك التي تتبوأ المراتب الدنيا في حرية التعبير، حيث الصحافيون يتعرضون لمضايقات كلما تعلق الأمر بالتعبير عن الآراء الحرة أو المساهمة في خلق رأي عام يتنافى مع مصالح حكومية أو ضد لوبيات متحكمة في الاقتصاد والسياسة.
هكذا عرفنا الصحافة وأهلها منذ ظهور المهنة على شكل مؤسسات كانت تعتمد في بنائها على مواردها الذاتية كنتيجة لعائدات المبيعات من الصحف والجرائد والمجلات، فيما كانت الرعاية الحزبية تشمل المؤسسات الصحافية المرتبطة بها ارتباطا عضويا باعتبارها لسان حالها والناطق الرسمي باسمها.
إن الدينامية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية شملت البنية التأسيسية للصحافة، حيث أصبح الإشهار عاملا مؤثرا في بروز صحيفة أو موقع إخباري اعتمادا على نسب المشاهدات، وكل ذلك على حساب المنتوج الإعلامي الجاد الذي أصبح يحتل المراتب الأخيرة في أولويات المؤسسة الصحافية أمام سوق الإشهار وأمام المنعم عليهم بدعم حكومي مجهول المساطر ويخضع لمزاج المسؤول وشبكة علاقته، وكذلك دعم الجماعات المحلية الذي يخضع إلى منطق الموالاة ومنطق تصريف المواقف السياسية.
لقد اختلط الحابل بالنابل وأصبحنا أمام غياب شامل للمفهوم البدائي للصحافة، لأن لوبيات الإقتصاد والسياسة أصبحت تتحكم في دواليب القطاع فتحول المهنيون إلى الجهاد والنضال من أجل تعبيد الطريق للإعلام الجادّ من خلال مواجهة هذه الجماعات الضاغطة، فتحولت المهنة من متاعب الصحافة وحرية التعبير والمساهمة في تربية الناشئة وصناعة رأي عام حرّ في إطار من البناء الديمقراطي مجتمعي تنموي، إلى متاعب أخرى ألزمت المهنيين على النضال من أجل مكافحة الريع وحرب المواقع والكراسي من خلال الحدّ من هذا المدّ الجارف للوبيات التي تعمل ليل نهار على تطويع قطاع الصحافة لفائدة مصالحها ومواقعها.
أمام هذه المتاعب الجديدة للمهنة نستحضر أدبيات الفدرالية المغربية للإعلام الداعية إلى اعتماد مقاربة تشاركية في صنع القرار عن طريق حوار جادّ ومسؤول يأخذ بعين الاعتبار مواقف جميع الأطراف دون إقصاء أو تهميش لأن الوطن للجميع والدفاع عنه واجب على الجميع.
لقد آن الأوان أن يدرك الحرس القديم أن للصحافة مكان ضمن النموذج التنموي الجديد الذي لا يمكن أن يستقيم إلا بإعلام حرّ يقطع مع كل الممارسات القديمة انسجاما مع الحق في المعلومة للجميع كمبدإ دستوري وجب علينا احترامه بأمانة كما هو وارد في الفصل 27 من الدستور، وبالموازاة مع ذلك نُذكّر أيضا بالفصل 28 من الدستور حيث أفرد مكانا للصحافة وألزم الحكومة بتشجيعها واعتماد قوانين تنمّي القطاع الصحافي وليس تلك التي تشكل قيودا أو أداة حصر.