بقلم: العلمي الحروني (.)
نموذج يحتدى به للترافع الفلسفي العلمي الناضج على القضية الفلسطينية:
مؤلف ثمين يناقش تأثير الفلسفة الأوروبية على تصور القضية الفلسطينية، ويتناول العلاقة بين اليهودية واليونانية كإطار تحليلي لفهم كيفية صياغة الخطاب الفلسفي الغربي حول فلسطين للبروفيسور زاهي زلوعة – أستاذ الفلسفة في كلية بومونا في الولايات المتحدة- يتعلق الأمر بكتاب يحمل عنوان “الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية – أبعد من اليهودي والإغريقي”.
كان لموقف وأفكار الفيلسوف الليتواني ــ الفرنسي إيمانويل لِفيناس عن مذبحة صبرا وشاتيلا الأثر البليغ في الشعور بخيبة الأمل والغضب ودفع البروفيسور زاهي زلوعة للتعاطي مع العلاقة بين الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية. ركز المؤلف على أصول وبدايات تعاطي الفلسفة الغربية مع القضية الفلسطينية، إذ يرى أن هذه الفلسفة متورّطة في المشكلة لانشغالها بالمسألة الأقدم، أي “المسألة اليهودية”، هذه الأخيرة اكتسبت، بعد أوشفتر (*) موقعا حاسما في الفلسفة الأوروبية وأصبحت شخصية اليهودي هي التي تصوغ المشهد الأخلاقي في الفكر الأوروبي وصارت تهيمن على أفق التفسير في هذا الفكر، هذا ما يفسر عمق خلفيات مواقف الدول الأوروبية والسياسيين والأفراد من مختلف الانتماءات الفكرية والعقدية، بخصوص المسألة الفلسطينية.
معرفة الخلفيات الفلسفية لفلاسفة أوروبا هي بالذات الثغرة التي وجب إحكام إغلاقها وكانت تلك مهمة نجح فيها البروفيسور زاهي زلوعة من خلال مؤلفه العميق الذي يعتبر أول إسهام فكري فلسفي على هذا النهج. يتناول بالبحث المفصل وبالتحليل والنقد وبشكل إبداعي خطأ بنية فكر بعض الفلاسفة الأوروبيين القائم أساسا على “الاستثناء” كاشفا مكامن عمى نظرتها من منظور المركزية الأوروبية.
قال الكاتب: هناك أصول، أو بالأحرى بدايات، متعدّدة لمؤلف «الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية». أحدها، وهو عنصر مشترك بين مئات ألوف الفلسطينيين، هي «النكبة» .ا
لقد تأثر عديد من الفلاسفة الغربيين بما وقع أوشفتز من إبادة لليهود، إذ على خلفيات التدمير الحاصل في أوشفتز، أعاد عديد من الفلاسفة الغربيين النظر في وضع الفلسفة الذي أصبح يفتقر إلى اليقين. يمكن الاشارة في هذا الصدد إلى الفيلسوفٌ وعالم اجتماع وعالم نفس وموسيقي ألماني تيودور أدُرنو (Theodor dorno) يقول: «نظْم الشعر بعد أوشفتز أمر بربري… كما أصبح الطرح العادي للأفكار الفلسفية نوعاً من الفحشاء بعد أوشفتز». فقد واجهت أوهامُ الحداثة بشأن التطوّر والعقل المنطقي، الواقعَ الصادم لمعسكرات الاعتقال والتأثيرات المدمّرة للتقنيات الحديثة والعقلانية الوسيلية (instrumental rationality).
أما جان بول سارتر فكان بين فلاسفة القرن العشرين، الذي رفع في مقالته «تأمّلات في المسألة اليهودية» Réflexions sur la Question juive، الصادرة عام 1946، من شأن اليهودي، وأسبغ عليه سمة رومانسية، واضعاً هذه الشخصية في مواجهة الذات البورجوازية الزائفة في فرنسا. إضافة إلى تصوير اليهودي بصورة شخصية تواجه تهميشاً مدمِّراً. أما في كتابات لِفيناس فقد حظى اليهود بقوة بلاغية وتحليلية فائقة في أطروحته ، حيث أهدى مؤلّفه Otherwise than Being، الصادر عام 1974، إلى ضحايا «الكارثة»، وكان أن رفض ليفيناس وسارتر تطبيق مقاييسهما الأخلاقية لليهود على الفلسطينيين
في أعقاب ما حصل في أوشفتز، أعاد لِفيناس النظر، شأن عديدين، في وضع الفلسفة الذي أصبح يفتقر إلى اليقين. ورغم أنه لم يرتبط بتلك الكارثة بالتزام ثابت، ينبغي النظر إلى فلسفته على أنها دليل أو شهادة على ذلك الحدث غير المسبوق، أو على أزمة الفلسفة التي أوجدها الحدث المذكور، أو على المهمة التي لا يمكن فهمها والمتمثِّلة في محاولة التعاطي مع أهوال التاريخ.
شكّلت منظومةُ الأخلاق اللِّفيناسية (Levinasian) الجديدة تجذّراً في الروحية التوراتية لأورشاليم / القدس… فعندما أجاب لِفيناس سلباً، ومن دون أي مواربة، عن سؤال: «هل يُعتبر علم الوجود علماً أساساً؟»، فإنه افترض أنّ الأخلاق هي التي تتجاوز اللوغوس (Logos) الإغريقي وعنفه التأويلي : الهرمنطيقا اليونانية (hermeneutic) ــ «الإمبريالية الوجودية فيه”” / ontological imperialism ــ وشخصية اليهودي بما هو الشخصية الأنموذجية للمغايرة. وبذلك، تُعدّ منظومة أخلاق لِفيناس، المسكونة بشبح «الكارثة» اليهودية، تحدياً جذرياً لكل ما تدين به الفلسفة للفكر الإغريقي.
في ذلك يسرد زلوعة مثالا لعبارات موريس بلانشوت (Maurice Blanchot) «مهما يحصل، أنا في صف إسرائيل. أنا في صف إسرائيل عندما تعاني. أنا في صف إسرائيل عندما تعاني نتيجة ابتلائها الآخرين بالمعاناة»، وهو خير تعبير عن انحياز العديد من المفكرين بعد أوشفتز. هذا الدعم المطلق اللامشروط ليهود إسرائيل / لدولة إسرائيل، يعوق نشوء أي التزامات تجاه غير اليهود/الفلسطينيين، أو التماهي المحتمل مع هؤلاء مهما كانت خطورة العنف الحالي ضدهم. وهو موقف ضال.
يركز هذا المؤلّف على إعادة صياغة العلاقة بين الفلسفة والتاريخ، وبين الأخلاق والسياسة.
إن وضْع، لِفيناس، أورشاليم / القدس في مواجهة أثينا، يوضح الكثير بشأن تفكيره الأخلاقي، ويمثّل نزعة مهيمنة في الفلسفة الأوروبية المعاصِرة. في اختزالها البشرية والتاريخَ البشري، في مقولة ليفيناس: “أنا غالباً ما أقول، مع أن التصريح بذلك علناً يُعتبَر أمراً خطراً، إنّ البشرية تتكوّن من التوراة والإغريق. وكل ما عدا ذلك يمكن ترجمته: كل ما عدا ذلك، كل ما هو دخيل لا يزيد عن كونه موسيقى راقصة.” وبالتالي، يرفض لِفيناس إضفاء صبغة تاريخية وثقافية على الجار، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين.
يمكن أن نلمس محاولة لتفسير الفرق بين الأخلاق والسياسة، استنادا لتمثله لمفهوم ” العدالة” في قضية مدبحة صبرا وشاتيلا هكذا في الوقت الذي أحجم فيه، منذ البداية، عن اتخاذ موقف نقدي من دولة إسرائيل، كما عبّر عن الفكرة بالقول: «أنا لا أسمح لنفسي بالحديث عن إسرائيل، فأنا لست في إسرائيل، وأنا لا أعيش المغامرة النبيلة التي تعيشها إسرائيل ولا أخوض يومياً في تلك المخاطرة الكبرى».
إجابات لِفيناس تشير إلى مسألة سياسية أكثر أهمية بالقول ان اليهودي بوصفه «الضحية» الأبدية الفريدة. يتحوّل إلى هوية متجاوزة للزمن (وبالتالي غير مسيّسة)، بدل أن تكون ناتجة عن حالة ضرر تاريخية محددة ومن ثم يُصنَّف كل اليهود بعد الكارثة، وبمفعول رجعي، ضمن فئة الضحية، وهو ما يجعل كل اليهود المعاصرين، سلفاً، ضحايا دائمين.
تستند فكرة لِفيناس إلى استثمار شخصية اليهودي بوصفه الضحية المطلقة في التاريخ كمثال عن أقصى درجات المعاناة البشرية، ( أوشفتز). ويطرح بذلك دولة إسرائيل كحل يعوِّض عن هذه المصيبة غير المسبوقة التي تستحق التعويض عنها. ففي أعقاب أوشفتز، أصبحت فكرة إنشاء إسرائيل منطقية تماماً من منظور لفيناس وآخرين عديدين بحيث يقول «ما أود قوله فقط هو أنه، وفي الظروف الحالية… يبدو إنشاء دولة، هو الصيغة الوحيدة التي يمكن بها لإسرائيل، الشعب والثقافة، البقاء على قيد الحياة».
مع ذلك، يرى ذ. زلوعة ان وجهة نظر لِفيناس تتسم بقلّة التبصّر، عند مقارنتها بموقف مارتن بوبر (Martin Buber) ــ فيلسوف نمساوي أشكنازي ــ الذي ينمّ عن ضمير حي، لا يبدو منطقه وكأنه البديهي: «استقلال المرء يجب ألا يحصل على حساب استقلال طرف آخر. والمستوطَنة اليهودية يجب ألا تطرد أي فلاح فلسطيني، والهجرة اليهودية يجب ألا تؤدي إلى تدهور الوضع السياسي للسكان الحاليين، بل ينبغي أن تستمر في تحسين وضعهم الاقتصادي».
يعتقد لِفيناس أن ما يجعل الفلسطينيين عدواً بدهياً هو، برأيه، افتقارهم للكرم وحسن الضيافة تجاه اليهود بتجاهلهم لمحنة ضحايا «الكارثة» اليهودية، وفشلهم فيما فشل فيه الأوربيون: فبالنسبة لليفيناس ” إما أن تدعم الصهيونية (وتصبح أخاً لإسرائيل / لليهود)، أو تكون مجرّداً من الضمير الأخلاقي (وتصبح عدواً لإسرائيل / لليهود).
وفي ذلك يرى جيل دولوز أن دعاة الصهيونية تمكنوا من تحويل «أسوأ إبادة جماعية في التاريخ» إلى «شر مطلق»، وتبنّوا «مقاربة دينية وصوفية» للكارثة بدل «المقاربة التاريخية». وحسب زلوعة دائما، فإن هذه المبادرة التأويلية المسبغة للغموض على الحدث، خلدت الشر الكامن فيه ليمتد إلى «أبرياء آخرين». هذا التحويل منح الحق لأي يهودي إسرائيلي، ولأي يهودي أيضاً، في المجاهرة بطبيعته الشمولية (تاريخ اليهود هو تاريخ البشرية) ويعطيه، في الوقت نفسه، الحق في التمسّك بالاختلاف. هذا التحوّل ينطوي على مضامين سياسية، يتهم فيها كل من يحاول كشف العلاقة المرتبكة بين (الشمولية والاختلاف)، بتهمة معاداة اليهود/اللاسامية. ومع وجود هذا التهديد الدائم، نجد أن الفلسطينيين، وكل من يناصر القضية الفلسطينية، يتعرّضون باستمرار لمحاولات إسكاتهم وإقصائهم عن مجال الخطاب العقلاني العام، وقد يصل ذلك، كما يقول ألان باديو (Alain Badiou) ــ فيلسوف فرنسي، 1937 ــ إلى ما يشبه «الابتزاز السياسي «
كما يشكك لِفيناس في شرعية الفلسطينيين كشعب ذلك أمام عمق جذور ورسوخ ذرية «بني إسرئيل» ويدمجهم مع «الشعب العربي الكبير»، سالبا إياهم أي خصوصية مكرسا بذلك طمس وجودهم. يعتبر ذ. زلوعة أن هذا الرأي يعوزه التوازن بشأن الصراع ولا يترك أي مجال لتخيل اليهود بأي صورة أخرى غير صورة الضحايا أو تخيلهم بكونهم من يضطهدون العرب، وهو منطلق بديهي لدى ليفيناس بحيث يرى من خلاله اليهود ودولة إسرائيل أهدافا «أكثر هشاشة وضعفًا» أمام الغير/الإرهاب وينزههم بالتالي عن ممارسة الإرهاب ضد الفلسطينيين.
وفي نفس الإطار، يعتقد أشيل مبيمب (Achille Mbembe) ــ فيلسوف وعالم سياسة ومحلّل للسلطة الاستعمارية من الكاميرون ــ أنّ استغلال ذكرى أوشفتز، يؤدي إلى «صهر القوة ووضع الضحية وعقدة التفوق»، والمفارقة أن ذلك يقضي على أي أمل بالتعامل بعقلانية مع الفلسطينيين، واعتبارهم ضحايا، أو كما يقول إدوارد سعيد «ضحايا الضحايا”.
* ترجمة: مها حسن بحبوح وزياد منى
(*)معسكر اعتقال أوشفيتس (بالألمانية: Konzentrationslager Auschwitz؛ ويسمى أيضًا KL Auschwitz أو KZ Auschwitz) هو مجمع يضم أكثر من 40 معسكر اعتقال وإبادة أدارته ألمانيا النازية في الجزء المحتل من بولندا (في جزء جرى ضمه إلى ألمانيا عام 1939)[2] خلال الحرب العالمية الثانية والهولوكوست. كان يتألف من أوشفيتز الأول وهو المعسكر الرئيسي (ستاملاغر) في أشفنشم؛ وأوشفيتز الثاني في بيركينو وهو معسكر اعتقال وإبادة بغرف الغاز؛ وأوشفيتز الثالث في مونوفيتز وهو معسكر عمل للمجموعة الكيميائية إي غه فاربن؛ وعشرات المعسكرات الفرعية. أصبحت المعسكرات موقعًا رئيسيًا للحل النازي النهائي للمسألة اليهودية.
والنتيجة حسب ذ. زلوعة، أنه، وإذا كان جان بول سارتر قد تجنّب اتخاذ موقف من معاناة الفلسطينيين كنتاج انحيازه للصهيونية، فإن ذنب إيمانويل ليفيناس كان أكبر لأن فكره قائم على الأخلاقيات. خاصة و أنّه رفض إدانة مجازر صبرا وشاتيلا لأن «إسرائيل» امتنعت عن حماية «الآخر» الفلسطيني.
كما يلاحظ أنه رغم أن عاموس عوز اهتم بالمسألة الفلسطينية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، إلا أن أغلبية الفلاسفة الأوروبيين لم يولوها انتباههم إلا بعد مجازر صبرا وشاتيلا في عام 1982، ومنهم جيلي كوهن، وجيل دولوز، لكن مجموعة أخرى من المفكرين الأوروبيين، ومنهم باديو وجيجيك، انضمت إليهم خاصة بعد الانتفاضة الأولى والثانية وسلسلة الاعتداءات على غزة في عامي 2008 و2014. مع أن الأخيرين ينظران إلى المسألة الفلسطينية ضمن إطار سياسي.
مساهمة البروفيسور زلوعة كانت أهم وأعمق إنتاج فلسفي معاصر بذهابه إلى أبعد من الانشغال الفلسفي السابق الموروث عن ليفيناس ومن بعده من الفلاسفة الغربيين ليمنح المسألة الفلسطينية الانتباه الضروري.
عموما، وكخلاصة لهذه الورقة، فإنه ومن الناحية الكيفية والكمية، يمكن القول أن الفلاسفة العرب والغربيين وغيرهم يؤيدون القضية الفلسطينية. من المنطقي أن يتخذ الفلاسفة، بشكل عام، وإلى حد كبير مواقف منطقية ومعقولة نظريا وأخلاقيا تجاه القضية الفلسطينية، بالطبع ليست تلك المواقف موحدة وهذا منطقي لأن الفلسفة ليست توجها حزبيا أو سياسيا. غير أن التوازن والاعتدال المنصف هو السمة الغالبة للمواقف الصادرة عن معظم الفلاسفة بخصوص الصراع الفلسطيني/ العربي الإسرائيل
وختاما، يمكن أن نفتح هذا النقاش على أسئلة أخرى أكثر أهمية سبق وأن طرحها ميشيل فوكو في نقد السلطة/المعرفة والتي من خلالها يتبين أن الفلسفة المعاصرة اليوم تنطلق من سردية مظلومية اليهود ك “حقيقة كونية”، بينما تُهمش في المقابل مظلومية الفلسطينيين كحقيقة “محلية” أو “مُعقدة”. وهذا ما نجح البروفيسور زلوعة في حفرياته حول الموضوع.
أسئلة أخرى حول نظام العقل الإبستيمي السائد ما بعد الاستعمار: والذي يستخدم المظلومية اليهودية لتبرير شكل جديد من السيطرة ليس فقط على الأراضي الفلسطينية بل وعلى المنطقة المحيطة والعالم بأسره.
مظلومية الفلسطينيين اليوم تُعبر عن إقصاء معرفي ناتج عن نظام جمعي للعقل العالمي والذي يحدد من يُسمع ومن يُقصى مقارنة بمظلومية اليهود التي استفادت من إعادة تشكيلها داخل نسق معرفي يخدم القوى المهيمنة، بينما يظل الفلسطينيون خارج هذا النسق، و”غير مرئيين” في المشهد العالمي.
(.) ناشط يساري