انتفاضة الخميسات ضد الاستعمار: السياق التاريخي والتداعيات في كتاب جديد للباحث مولود عشاق

عرض: رشيد ازروال

المؤرخون الأوفياء لمهنتهم حملة الفوانيس في حلكة التعتيم، هاجسهم إضاءة مناطق الظل المكتظة بالأحداث التاريخية المنسية والمهملة من طرف المؤرخين الرسميين الذين قد يبرزون أكاذيب ويحجبون حقائق من أجل نيل رضا السلطان/ الملك/ الإمبراطور/ الزعيم/ القائد..تختلف التسميات والسلطوية المعادية للحقيقة التاريخية واحدة في كل البقاع ولدى كل الملل والنحل.

في الحقبة الكولونيالية تعادي السلطوية الفرنسية الاستعمارية (حتى وقتنا الحاضر) كل الكتابات التاريخية النابشة والمغربلة بحثا عن الحقائق المغيبة  التي تسعى الى أن تلتقط المعطيات الواردة في الأرشيف الكولونيالي بحذر وعين فاحصة، ثمة حقائق ترد معززة بوثائق وصور وحجج وثمة ما يثير الريبة، كما أن الأرشيف ذاته يخضع لرقابة قديمة ولايتم السماح بالإطلاع والتنقيب إلا على مايريده مركز القرار في باريس.

الإهمال الاكاديمي لمنطقة زمور

تطرق د.محمد أحداف في تقديمه لكتاب د.مولود عشاق الصادر حديثا والمعنون   والمعنون ب “انتفاضة 22 اكتوبر 1937 بالخميسات (السياق والتداعيات) “إلى إشكالية مطروحة” ان ندرة الكتابات التاريخية والبحث العلمي بوجه خاص حقيقة معروفة لدى الأكاديميين” وهذا ما أثاره مؤلف الكتاب في مناسبات سابقة حول إشكالية التنقيب في المصادر التاريخية حتى ولو كانت تعاني من الشح، بيد ان الخميسات ومنطقة زمور ورد ذكرها في مصنفات متعددة، وبالتالي فهي متوافرة إلى حد ما تحتاج معها هذه الوفرة النسبية إلى إعمال النظر التاريخي لإعادة بسط المادة التاريخية المعينة على فهم الذي جرى بأدق التفاصيل وكيف تطورت الأحداث، مع إستكناه كل تفصيلة من التفاصيل وتقليب كل مرحلة من المراحل لتشكيل صورة متكاملة بما هو إعادة ترتيب الوقائع ونسج المشهد من جديد كأننا نرى التاريخ رأي العين، غير أن ذهنية المركز والأطراف، مازالت حتى في أذهان بعض الأكاديميين تعتبر منطقة زمور على هامش الحدث التاريخي وليست صانعة للحدث وتستحق الدراسة والبروز العلمي، هذه الندرة تفضي الى ما ماكتبه د.أحداف “ويصبح البحث العلمي أندر أكثر فيما يتعلق خصوصا بالبحث التاريخي في بعض مناطق المغرب التي رغم تراكم أحداث التاريخ منذ أزمنة بعيدة، فإنها طالها تهميش البحث العلمي، وإهتمام الجامعيين المغاربة.”

وأضاف “أن عملية النبش التاريخي في مضمون وطبيعة الأحداث السياسية والعسكرية التي شهدتها منطقة زمور من شأنها دعم وتأكيد أطروحة المشاركة الكبيرة لقبائل زمور وإنخراطها منذ زمن مبكر في المقاومة المسلحة”.

في مقدمة صاحب الكتاب د.مولود عشاق كتب “لامراء في أن إنتفاضة الخميسات يوم 22 اكتوبر1937 شكلت حلقة مركزية، ومحطة حاسمة في سيرورة ومخاض الوعي الوطني المحلي “مشيرا الى انه رغم رجة الإنتفاضة وتداعياتها السياسة ” لم تنل حظها من الدراسة والمتابعة، اللهم الا بعض الشذرات الطفيفة، والإيماءات المتفرقة التي أفلتت من عقال الحيف الممنهج، والإبتسار المتعمد، واللامبالاة المقصودة”، وفي سياق متصل أورد في حاشية المقدمة إشارة إلى زمن ميلاد الخميسات، إذ ذكر المؤلف أن “ميلاد نواة المدينة تزامن والتدخل الاستعماري الذي أسس بها معسكرا(قشلة) يوم 6 يوليوز  1911 بإيعاز من الجنرال

          لتثبيت وإحتواء سياب   MOINIER

قبائل زمور، وتحركاتها المجالية، ثم ظهرت بعذئذ نواة إدارية وعسكرية مكونة من ثكنة ومكاتب وسجن ومستودعات، وبضعة مساكن بجوار سوق ثلاثاء زمور مشكلة بذلك اللبنة الأساسية لبداية الإمتداد العمراني والمعماري للمدينة، مع الإشارة إلى أن تسمية الخميسات كانت معروفة ومتداولة،أو بالأحرى من المحالات المشهورة على حد تعبير الناصري في إستقصائه قبل تشكيل نواة المدينة…”.

منهجية الكتاب

قسم الباحث الكتاب الى ثلاثة أقسام لكل منها عنوان بلفظة المبحث مع التنصيص على العدد، ودلالة كلمة “مبحث” علمية بحتة، فهذا الكتاب له منهجية، يتوسل بها  إلى ملامسة حقائق الموضوع المطروق بوثائق مرجعية معتمدا مقاربة منفتحة على جمهور القراء بما يفيد تعميم الثقافة التاريخية وإخراجها من مختبرات الجامعة، رغم المفارقة الماثلة أمامنا في المقدمة أن الجامعة المغربية لم تغتن قبل هذا الكتاب بمثل هكذا أبحاث تضيء المناطق المعتمة المنسية عن قصد أو لامبالاة من تاريخ المغرب الحديث، تحديدا في الحقبة الكولونيالية.

السياق التاريخي لانتفاضة الخميسات وتداعياتها:

ذكر المؤلف ما أعقب التدخل الاستعماري سنة 1912 من مناوشات وإصطدامات بلغت ذروتها بعد صدور مشروع “الظهير البربري” يوم 16 ماي سنة 1930، المشروع التفكيكي للنسيج الوطني الذي اراد من خلاله الإستعمار إقتلاع الجذر الديني المنغرس بقوة في التربة المجتمعية، هذا الجذر يوحد المغاربة عربا وأمازيغي، ولمعرفة المستعمر بخطورة هذه اللحمة المتينة على مصالحه حاول تمزيقها حتى يخلو له الجو والأرض.

يكتب مولود عشاق عن هذا المشروع الخبيث “وللحيلولة دون تدفق حممه العنصرية، وتوسع بقع زيوته الماكرة سجل وفد قبائل زمور إحتجاجه بالكتابة الخاصة للسلطان محمد بن يوسف في شخص صدره الأعظم محمد المقري يوم 30 غشت 1930، كما وضع وفد آخر من أعيان وممثلي قبائل زمور بيانا شديد اللهجة لدى رابطة علماء القرويين يندد من خلاله بسياسة تفتيت الهوية المغربية،ومحو كيانها الثقافي واللغوي،وإجراء تغييرات جذرية قوامها إحلال قانون العقوبات الفرنسية محل قانون العقوبات الاسلامية”. كان رد الإدارة الاستعمارية في شخص الحاكم الفرنسي بالخميسات المدعو “بوسييه” هو إعتقال وفدي الرباط وفاس، ومنع وفد آخر من المشاركة في حركة اللطيف بمختلف الجوامع والمساجد

إستجابة لدعوة من رجال الحركة الوطنية بسلا، كما اتخذ قرارا مماثلا يتم بموجبه” حظر مغادرة أي بربري لتراب قبيلته إلا بترخيص منه، الأمر الذي يعني تطويق ساكنة زمور، وشل حركتها..”. الزموريون بادورا إلى تشكيل ردة فعل جماعية تمثلت بتطويق مقر إدارة المراقبة المدنية  يوم 4 يوليوز 1930 غداة استدعاء المراقب” بوسييه” لخمسة أعيان من قبيلة زمور بشأن السياسة البربرية، فحاصر1800 زموري الإدارة، مهددين بالثورة اذا فرض عليهم ظهير 16 ماي فاضطر المراقب الى تغيير الحديث ليتكلم عن الجراد الذي هدد اذ ذاك بالإنتشار.

يورد الباحث دور النساء الزموريات في المقاومة والتصدي لمشروع التقسيم الاستعماري” كما دشنت نساء الخميسات حركة احتجاجية سنة1931 للتنديد بفصول الظهير ومبادئه الرامية الى احياء أعراف بربرية وذلك بإقامة مناحات مفعمة بالبكاء والعويل والصراخ، وترديد عبارات التشبث بالأحكام والعقوبات الدينية الاسلامية أمام مقر الحاكم الفرنسي الذي لن يتردد في جلد المحتجات،والزج بهن في السجن”،وفي السنة الموالية(1932)” اجتاحت مظاهرة اخرى قرية الخميسات وشارعها الرئيسي للتنديد بسياسة الاستعمار،ونسف مخططاته الاستيطانية، ورغم الطابع العفوي والسلمي للمظاهرة إلا ان الإدارة الفرنسية كبحت جماحها بوحشية مستعملة أساليب غاية في التنكيل والعنف”.وفي سياق خبث الادارة الدخيلة على البلاد، يثير المؤلف كيف عمد المدعو” بوسييه” الى التضليل لمحاولة صرف اذهان الزموريين عن المطالب الوطنية، باستغلال الأمية الابجدية من اجل شرعنة ” مبادىء” الظهير وتكميم حركة الاحتجاجات، ولتضليل الرأي العام المحلي ومن أجل اضفاء الشرعية على الظهير المشؤوم عمد المراقب المدني بالخميسات إلى جر أعيان القبائل وممثليها للتوقيع على رسائل مضمونها الحقيقي أن الحماية الفرنسية تستهدف انقاذ البربر من العرب، وليس تهنئة السلطان بمناسبة عودته من فرنسا كما روجت الدعاية الاستعمارية، مستغلة الأمية وجهل السكان، إلا أن أحدهم وهو محمد بن ادريس المتعلم  قرأ الرسالة، ليرفض توقيعها فلطمه الحاكم الفرنسي وأمر بحبسه، هذه الدسائس جعلت النساء الزموريات الشجاعات يخرجن مرة أخرى في حركة احتجاجية للتنديد يوم 10 شتنبر 1934 بفصول الظهير البربري،بل بلغت عنتريات المراقب المدني ان تطاول على المقدس الديني باتخاذ اجراءين استفزازيين:

اغلاق المحاكم الشرعية بمنطقة زمور حتى اضحت الساكنة تعاني مشاق السفر الى سلا لتوثيق عقود الزواج والطلاق ولإرث.

منع بناء المساجد بقرية الخميسات، وتحويل مساهامت الاكتتاب  لتشييد الكنيسة( كنيسة تيريزا،و المقصود بالمسجد المسجد العتيق الذي شيد فيما بعد سنة 1936 باكتتاب من سكان واعيان ووجهاء قبائل زمور، وأحباس مدينة سلا بأمر من السلطان محمد بن يوسف)، الملاحظ ان الإدارة الاستعمارية الى جانب انتهاك المقدس الديني عمدت الى ضرب الحصار على التجار، خاصة التجار من سلا  سواء المقيمون او المؤقتون، وهذا ينبئ على خطورة أهل سلا على مشاريع الفرنسيين، ولاغرابة في ذلك فسلا كانت معقل الحركة الوطنية ونخبتها لطالما  دشنت مبادرات وطنية وازنة.

يوم 22 اكتوبر مشهود سجل بمداد الفخر في التاريخ الوطني، وان لم يأخذ حقه وحقيقه كما ينبغي بعد الاستقلال توثيقا ودراسة واحياء وتكريما وتعريفا، يوم الجمعة المبارك عيد الأسبوع على الساعة الثانية زوالا، خرج حشد المصلين مرددا الدعاء بحماسة ” اللهم يا لطيف لاتفرق بيننا وبين اخواننا البرابر” وهكذا اندلعت انتفاضة عارمة زلزلت الأرض من تحت أقدام المستعمرين، وكان من الطبيعي أن تحصد الانتفاضة العديد من الجرحى( أكثر من 11جريحا)،والمعتقلين (أكثر من 70معتقلا) وأصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية أحكاما قاسية بمثابة انتقام من الوطنيين الزموريين، يكتب د. عشاق “وتحسبا لأي رد فعل محتمل عقب الأحكام القاسية والمجحفة في حق نشطاء الإنتفاضة، فرض الدرك الفرنسي مراقبة صارمة على الطرق المؤدية الى كل من فاس ومكناس والرباط، خصوصا بعد السخط الذي أبداه ساكنة قرية الخميسات وباديتها حيال سلطات الحماية، والخوف والترقب الذي بدأ ينتاب الجالية الفرنسية بالقرية”.

دور الاننتفاضة في تشكيل وعي وطني مطلبي

“اذا كانت الانتفاضة وعيا وطنيا ذو أبعاد مطلبية تراوحت بين الإصلاحات والاستقلال فإن حصاد نتائجها زادت في حقنة الإحتجاجات والإنتفاضات التي ما انفكت تؤرق الإدارة الإستعمارية” يكتب المؤلف، وما يستدعي استحضاره ما أشار اليه من كون المقدس الديني كان له دور محوري في استنهاض الهمم واندلاع الانتفاضة… الزمورية باعتبارها احدى أكبر الإنتفاضات المغربية في عهد الاحتلال الفرنسي البغيض، ليس فقط منع المساجد ما يشكل انتهاكا بل الأدهى تشييد كنيسة القديسة تيريزا، واقامة مهرجان كاثوليكي شمال افريقي،فصارت الكنيسة بمثابة قاعدة لحملات التنصير في المنطقة المغاربية،ما أشعل جذوة الغضب الشعبي بقيادة النخب الزمورية ونخب المدن العتيقة التي ساند مناضلوها الحركة الاحتجاجية المحلية، وقد استفاض الباحث في جرد وتحليل معطيات الوقائع الإحتجاجية معتمدا على وثائق وأرشيف والمرويات الشفهية من مصادر عايشت الأحداث أو كانت مساهمة فيها معززة أيضا بوثائق لتفصيل وتبيين الأدوار الكفاحية للنخبة الزمورية، التي عانت كما عانت نساءها المحتجات من بطش المراقب المدني وجنوده واعوانه، ورغم شدة القمع والتنكيل واصل أهل الخميسات وزمور عامة إسوة بإخوانهم المغاربة في كل البلاد نضالهم الوطني دفاعا عن أرض الأجداد.

استعرض د.عشاق أصداء الإنتفاضة وطنيا ودوليا في المنابر الاعلامية وبين النخب السياسية، كما خصص بيوغرافية مفصلة لنشطاء انتفاضة 16 ماي 1936 معززة بصور ووثائق، ما جعل هذا الكتاب مرجعية في حد ذاته للباحثين والقراء عامة، فلا غنى عنه لمعرفة أصول نشأة مدينة الخميسات ودورها البارز والمنسي في النضال الوطني من أجل التحرر من نير الاحتلال الفرنسي.

يصح القول ان الخميسات مدينة كولونيالية؟ لأن النواة كانت بتشييد تلك المرافق الحضرية من بنايات اشتغلت داخلها الإدارة الاستعمارية، حتى ان تسمية:

“المراقب المدني” تحيل الى مشروع التمدين الذي لم يكن مشروعا حضريا خالصا او حضاريا، بقدر ما كان وسيلة استعمارية لتسهيل عملية السيطرة على الساكنة والقبائل والاستحواذ على خيرات المنطقة، وأيضا لجعلها محطة ربط بين الرباط المركز والمدينتين العتيقتين مكناس وفاس، بتشييد الطريق الرئيسية الرابطة بين قرية الخميسات والمدن المذكورة.   

هذه إشارات مركزة لبعض جوانب الكتاب الثري ثراء تاريخ المنطقة، وحسبي ان هذا العرض السريع يتغيا التعريف بهذا المنجز المفيد لعموم القراء، فهو آخر اصدار وليس الأخير، فمازال في جعبة المؤرخ د.مولود عشاق الكثير لإضافته الى المكتبة التاريخية خاصة والثقافية عامة، مادام نهمه المعرفي لا ينضب وهو يطارد الوقائع والأحداث بحاسة العارف المستكشف للدرر الكامنة في الظل تنتظر من ينفض عنها غبار التهميش ويعيدها لامعة تحت الأضواء.

تعليقات (0)
اضافة تعليق