كلفة الفراغ

بقلم: عمر الشرقاوي

من أخطر ما يهدد التجربة الديمقراطية الهشة التي طورها المغرب منذ حكومة عبد الرحمن اليوسفي وتم تكريسها مع حكومة دستور 2011 هو قدرة الطبقة السياسية على الإبداع في التطوير المرعب للفراغ المؤسساتي والسياسي وتحطيمها المهيكل للديناميات الاجتماعية التي تنتعش بين الفينة والأخرى داخل نسق اجتماعي بالغ المحافظة وتطغى عليه القواعد الغير المكتوبة التي وضع أسسها لأكثر من نصف قرن وظلت تتعرض لتحيينات مستمرة دون ان يمس جوهر وظيفتها السياسية. فبعد مرور أكثر من 120 يوما من التكليف الملكي بتشكيل الحكومة ما تزال النخب الحزبية عاجزة عن الوفاء بالاستحقاق الدستوري ورسم ملامح أغلبية منبثقة عن صناديق الاقتراع، مما أثبت الانطباعات السياسية السائدة حول قصور تلك النخب عن تشكيل مشهد سياسي بنفسها ومن دون تدخل اي وصي أو حكم. وأظهر هذا الفراغ الديمقراطي والمؤسساتي الرهيب أن نمط الاقتراع بصفة خاصة وبشكل أعم وظيفة الانتخابات كما صممت تاريخيا بالرغم من وجود وثيقة دستورية متقدمة لا تكفي وحدها لحسم الخيارات السياسية وتشكيل الحكومات المتعاقبة، فثمة حاجة دائمة وعميقة لتفاهمات سياسية واجتماعية أعمق واكبر مما تفرزه الاستشارات الوطنية مهما كانت نزاهتها. إن ما يحدث من فراغ سياسي ودستوري اليوم، يعكس حقيقة سياسية مفادها أن تشكيل تكتلات الأغلبية لا يتوقف فقط على ما تبوح به صناديق الاقتراع من أرقام التي يصر الدستور أن تكون منطقا لبناء أي مشهد سياسي مقبل. وإنما ما يقرره كذلك المحيط السياسي وتفاعلاته. فقد تكون التأثيرات الوافدة من هذا المحيط إيجابية، تساعد على تسريع وتيسير التوافقات السياسية كما حدث مع حكومة 2011. وقد تكون هذه التأثيرات سلبية تحد من قدرات قادة الاحزاب على تحقيق تفاهمات وتحويل السياسة من دوائر المواقف العقدية الصلبة الى مجال فن الممكن المبني على المساومات والتوافقات والحلول الوسطى. وبدلا من أن تعمل الطبقة السياسية بجد وبصمت على ايجاد حلول واقعية وسط ركام هائل من الاكراهات الطبيعية والمصطنعة، فإنها تمسكت بمواقفها الصلبة واختارت لغة التصعيد والتوتر والاستقطاب الحاد ما أوصل الأطراف السياسية إلى ما يشبه الحرب الباردة تسببت في دخول البلد إلى ما يسمى “حالة الفراغ المؤسساتي”. والمتوقع أن استدامة هذا الفراغ الذي يتغذى من مزايدات السياسيين ومناوراتهم او تذاكيهم او تلاعبهم بمزاج الراي العام سيدخلنا بدون ريب في مرحلة تحول سياسية قاسية وصعبة، ستشهد آلاما سياسية وديمقراطية مضاعفة لا أحد يدري (ولا خبرة لدينا) إلى أي حد سوف يحتمل النظام السياسي تكلفتها الباهضة ويقاوم مخاطرها السياسية. إن نظام الفراغ السياسي والمؤسساتي بعد لحظة انتخابية غنية وثرية بالمشاهد الديمقراطية والسلطوية على السواء، سينتج لا محالة نظاما ثقافيا مغتربا مغرقا في السلبية يكره اللعبة السياسة ولاعببها ويكفر بقواعدها ولا يؤمن باللحظة الانتخابية كتمرين للمساءلة والمحاسبة. ويبدو أن حالة الفراغ المؤسساتي المستمرة من دون أفق واضح المعالم لن نلمس خطورتها وآثارها بشكل مباشر إلى أن تظهر عواقبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المكلفة؛ هناك فقط ربما يبدأ البحث المتأخر عن حل ينهزم فيه الجميع بعدما كانت أمام الجميع فرصة مواتية لعقد صفقة رابح-رابح.

FacebookTwitterWhatsAppMessageShare
تعليقات (0)
اضافة تعليق