الحركة التداولية لثنائية الخير والشر (دراسة تحليلية لأنموذج السوري والقيم المستقبلية)
بقلم: حسن حلحول (.)
إن الملاحظة الأساسية التي يمكن ان نسجلها حول الأحداث السريعة والمفاجئة هي أن حادث سقوط النظام الأسد في سوريا ،ومغادرة الرئيس لها بتلك الطريقة تاركا الدولة على حالة من الفراغ التام ، يطرح أكثر من سؤال هل هو صراع بين الخير والشر؟ وهل تعتبر اليوم هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني هوالخير للشعب السوري؟ وهل نظام بشار الأسد في نظر كل السوريين شر تم الانتصار عليه؟ ماهية الخير الشر في تدمير مؤسسات الدولة؟ وهل انتصار الإسلاميين الذين اعتبروا في الامس من الإرهابيين ( الشر) واليوم من الإصلاحيين ( الخير) هو الخير المطلق ؟ أم أن الأمر يتعلق بتداولية الخير والشر في المجتمع ، أي أن ما كان يعتبر ويسمى بالأمس القريب خيرا تحت ايديولوجية الاشتراكية العلمية والقومية العربية ومركز جبهة الصمود والتصدي ،وكان الشعب يمجده ويناصره في كل القرارات، انقلب فجأة على عقبه وأصبح شرا وهل الشر انبثق وانفلق من خير الامس ؟ وهل العلاقة بين الخير والشر هي علاقة جدلية ومحايثة لا الخير ينتصر عليه ولا الشر ينهزم أمامه؟.
اذا كان الفلاسفة منذ البداية بحثوا بعمق في ماهية الوجود لمعرفة كينونته، ثم انتقلوا للبحث في ماهية الطبيعة وانشغل فكرهم به، ثم بعد ذلك بحثوا في ماهية الإنسان وأسسوا نظرية المعرفة عليه ، الذي وجدوه جدير بالبحث عن سعادة الإنسان وأخلاقه لمعرفة سلوك الخير والشر فيه.
لقد تناول هذا الموضوع الذي مناط الخير والشر فلاسفة كبار، نذكر على سبيل المثال من الفلاسفة المسلمين ابن سينا وكان لديه اعتقاد راسخ ويقيني أن الخير غالب على الشر، اذن كان يرى أن العلاقة الموجودة بين الخير والشر هي صراع هذا ما يعتقده كثير من المتكلمين والفلاسفة .
إن شيخ فلاسفة المسلمين كان يعتبر أن الخير من طبيعة الوجود والشر من طبيعة العدم ، يرى أن الخير المحض أو المطلق لا وجود له في هذا العالم ،لو كان هذا المطلق هو السائد في الحياة لما وجد العالم ولا وجود للشر بداخله لان الجميع حظي بكمال الوجود في حين ان عالمنا عالم الفساد، ولو كان الشر مطلق لما وجد كذلك به العالم لا يمكن أن تستمر الحياة بوجوده بالمفرد وهو عالم الموجودات الممكنة أي أنه ليس واجب الوجود لذاته لكي يكون كاملا، بل هو عالم الإمكان بمعنى من الممكن أن يوجد ومن الممكن أن لا يوجد.وكل الإمكان يحتمل العدم والنقص والنقص شر، إن ما ذكره شيخ الفلاسفة المسلمين من الكون لا وجود للخير المطلق لا يحمل بداخله الشر، هذا الاستنتاج الذي توصل اليه ابن سينا من الإبداعات الفلسفية الجديدة لم يستوعبه ،لم تسعفه التجربة في الاستدلال على مبدأ التناقض الديالكتيكي الذي هو جوهر جميع الظواهر والأشياء كما قام بالاستدلال عليها هيجل وماركس ، يمكن القول أن ابن سينا سبق وتفطن إلى مبدأ الديالكتيك بين المتناقضات قبل هؤلاء الفلاسفة في تقديري عندما اعتبر أن الخير يحمل في ذاته الشر،يرى أن ترابط الأشياء تجعلها لا يمكن قبول أي حدث بمعزل عن الأحداث الأخرى وأن هذه الظواهر تسير في حركة تداولية بدل التجادلية. وهذا فيه رفض للمنهج الميتافيزيقي غير مباشر، الذي ينظر إلى الأشياء بمعزل عن بعضها البعض. ليس هناك من شيء دائم فكل الأشياء في مرحلة انتقال وفي تطور دائم وفي حركة تداولية.
من يعتقد أن انتصار جبهة تحرير الشام هو انتصار للخير مخطئ ، ماهو الا انتصار في اذهانهم فحسب، أحسب أن ذلك مجرد دعاية اعلامية يسوق لها من خطط وساهم في القضاء على مقومات الدولة السورية ولا اقول النظام السوري حتي لا يعتقد البعض انني ادافع عن النظام الأسد، لأن هذا الأخير يحمل الخير والشر ،كما تحمل النار النفع في طهي الطعام والإضاءة والتدفئة وتحمل الضر في إحراق الإنسان والأشياء النافعة على قول ابن سينا، وكان في الإمكان تجديد النظام وايجاد بديل من الداخل يهدف الى تحقيق المصلحة الداخلية وليس تحقيق مصالح اجنبية لها اطماع في سورية ، اذن يستفاد من ذلك أن المصلحة هي التي تحدد مفهومي الخير والشر وليس الأخلاق العامة الممثلة في الدين. لأن مبدأ الحركة التداولية بين الخير والشر أو بصفة عامة بين الثنائية الموجودات الذي اعتبره وفسره بعض الفلاسفة على انه صراع الموجودات هذه ليست الحقيقة في شيئ ،وإنما هي حركة تداولية في كل شيء يولد الجديد من خلال وصول التراكمات الكمية التداولية وهذا يعني أن لاشئ ثابت أبداً في الطبيعة أو المجتمع وإن وعينا لاستمرار حركة تداولية جوهرية تحرك القضية الى نقيضها ينشأ عنها مركب هو السيرورة لان الخير ليس تام والشر الذي يتخلله ليس تام بل هي لحظة من تطور النظام والانتقال من حال الى حال يعزز تفاؤلا بالمستقبل فعوامل اليأس تداولية مؤقتة.
كثير هم ينتمون الى مدرسة تفسير الظواهر الاجتماعية تفسيرا سطحيا بسيطا بعيدا كل البعد عن التفسير العلمي للأحداث، إن تهاوي النظام وسقوطه ليس لأنه شر مطلق وأن جبهة تحرير الشام خير مطلق وأن هذا الأخير انتصر على الشر، وإنما تداخلت المصالح وتدخل قوى أجنبية عملت على تحقيق مصالحها مستعملة جبهة الشام كأداة للوصول إلى مصالحها بالاتفاق والتواطؤ معها،
إن الاتفاق مع القوى معادية لايديولوجية جبهة تحرير الشام بالرغم من ذلك تحالفت معهم، هو في حد ذاته مناف للأخلاق بمعيار النص الديني أو بمعيار المنطق العقلي، مما يكون معه معالم الشر بادية منذ البداية ، فإذا كانت مصنفة من المنظمات الإرهابية ثم بعد الاتفاق تم الالتفاف حول هذا التصنيف، لكي تحتسب معارضة مسلحة ، علما ان المعارضة في الأدبيات العلوم السياسية نسقها الأساسي هو الحوار والتحاور والتفاهم والتنازل ، أما أن تضاف إليها مسلحة فإنها يكون تمرد وعصيان، فما الذي تغير فيها حتى تنتقل وتتغير من محور الشر الى محور الخير؟ هذه الطفرة ليست طبيعية وولادة غير عادية خارقة قواعد وقانون الطبيعة . من العبث أن يستمر الربيع العربي 13 سنة من 2011.الى 2024 أي بمعنى أن هذا الربيع أصيب بالخرف وأن ما وقع في سوريا لا يصدقه العقل.
إعلم أن هذا التغير المستمر لحركة الخير والشر في حياة الانسان هو ما سميناه بالحركة التداولية في الزمان، فهي في الأصل تكاملية وليست صراعية ، فلنأخذ مثال في الطبيعة من خلال علم الذرة، إذ أن المادة في الطبيعة تحتوي على مجموعة من الذرات التي تتكون من النواة وهذه الأخيرة تحتوي على البروتون والنترون، ونظرا أن الهيدروجين قوته تكمن في ضعفه الذي يحتوي على” إلكترون” واحد ، عند التصاقها والتئامها “بلكور” الذي في حاجة إليه ، يستفاد من هذا أن هناك تكامل بين النوعين وليس تناقض وصراع، والالتحام بين النوعين فيه مصلحة ،والمصلحة هي متداولة ومتلاحقة بينهما، كما هو الشأن بالنسبة لثنائية الخير والشر. هناك من يرى الخير شر والشر خير وهذا الاختلاف في تحديد متى يكون الشر شر والخير خير نتاج عدم ثبات السلوك البشري المبني تحقيق المصلحة والمصالح الذاتية هي في ذاتها مبنيةعن الحركة التداولية،
من المعلوم أن فريدريك نيتشه اعتمد في النقد الأخلاقي في مؤلفه علم أصول الأخلاق وفي ما وراء الخير والشر على نظرية اللاأخلاقي ،وهذا لا يعني عنده الانحراف وتحلل من المبادئ والهمجية كما يفهمه عامة الناس، وإنما المصطلح يعني بناء نسق فكري مبني على نظرية النقد السليم للأخلاق ولن يكون ذلك إلا من خلال اللاأخلاقي،فهو لايقر بما يسمى خيرا ولا يعترف بما يسمى شرا، وإنما اتخذ موقفا مخالفا لسابقيه من المفكرين ممن تناول الخير والشر ضمن منظومة الأخلاق الدينية والوضعية، التي تبدو عندهم على انها مجموعة من المواقف الازلية، التي لا يجوز مناقشتها ويرى أن الأخلاق ليس من الله ، وإنما هي من صنع البشر دنيوي بحت، وهي قابلة للتغيير والتعديل فما نراه خيرا الآن ربما كان شرا في الأيام السابقة والعكس صحيح وهذا مطابق لقوله تعالى، “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم”.
وبالجملة إن الاخلاق عند نيتشه تأتي من الفاعل وليس من الفعل لأنها تتعلق بمصلحة ما، لذلك كان يهدف الى الوصول إلى البنية
الحقيقية للأخلاق، وكان يعتقد أن ذلك لا يتم الا بالابتعاد عن التمظهراتها مثل اصل الخير والشر فمنبعهما الأساسي في نظره هو من كانوا يسيطرون سواء كانت سلطة دينية أو سلطة وضعية ،ومن ثم أن الأخلاق واصل الخير والشر من صنع البشر،لجلب المصلحة
ودرء المفسدة، وقد قسم الأخلاق الى قسمين اخلاق السادة وأخلاق العبيد، وهذه الأخيرة هي الرحمة والتضحية والعطف وهي اخلاق العبيد مليئة بصداع النفس.
اما اخلاق السادة :هي اخلاق القوة والاستقلال والجرأة والاعتماد على النفس، وخلص الى ان التاريخ هو تداول بين اخلاق السادة وأخلاق القطيع ،ويصبح عند تمكنهم بالسلطة بحجة محاربة للشر، ويصبح كل ما صدر عن السادة شر.
إن الحركة التداولية لثنائية الخير والشر هي السيرورة التاريخية لتطور المجتمعات المبنية على حب الخير الذي هو جوهر الحياة الانسانية هدفها وهي القوة المحركة للتقدم الاجتماعي والأخلاقي خاصة، تقتضي أن يتم بهدوء تام تجديد النخبة الحاكمة التي كانت بالأمس القريب تمثل الخير، وأن الاختلاف مع عقيدتها وايديلوجيتها لا يكون مبررا للجوء الى أعداء الأمة لتنتصربهم، لأن هذا الانتصار الملطخ بالخيانة شر ورذيلة، وليس خير وأن ما بني على الشر لن ينتج إلا الشر.
إن كل من يطلب الانفصال عن الوطن ويستعين بالغير ضد بلده ،خيانة عظمى وشر مطلق ،فلا يمكن لشرذمة ليس لها مشروع مجتمعي أن تنهض بمؤسسات الدولة وهي تفتقد الى الشرعية تشرع بالدين، إن الحركة التداولية أساسها الحوار المبنية على التنازلات لا مجال فيه لحمل السلاح وقتل الأبرياء بتحريض من جهات اجنبية
إن الجبروت والتسلط لا يمكن له أن يستمر في سوريا ،طالما أستمر الصراع وكذلك الأمر بالنسبة الى الاستبداد والتسلط إن استمرار وجودها مرهون بضعف العوامل الذاتية ومشاركتها في عملية الحركة والصراع.
أستناداً إلى جدلية حول أستمرار الحركة التداولية والصراع والتناقض ونفي النفي فأن في هذه العملية التداولية تكمن الآمال العظيمة هو التداول على السلطة بشكل ديمقراطي.
(.) محامي بهيئة الرباط