نبرة جديدة في دبلوماسية المغرب
بقلم: د. حسن أوريد
لم يكن الحوار الذي خص به وزير خارجية المغرب السيد ناصر بوريطة قناة «الجزيرة» الأسبوع المنصرم من قبيل التمرين المعتاد، بالنظر إلى القناة أولا، التي لم تكن لها دوما علاقات جيدة مع أصحاب القرار بالرباط، ثم بالنظر إلى محتوى الحوار، وثالثا إلى توقيته، قبيل زيارة وزير خارجية روسيا سيغري لافروف للمنطقة، التي قادته للمغرب.
فقد رسم الوزير المغربي في حديثه ملامح توجه جديد في دبلوماسية المغرب، لن نذهب إلى القول بأنه وضع براديغم جديدا، ولكنه رسم معالم تصورات جديدة ومقاربة مغايرة. الثقافة السياسة المغربية تأنف من القطيعة، ولا تتأذى من التناقض، وتسعى أن تدبره ولو في شيء من الاعتساف، ما قد لا يوافق هوى الغربيين والشرقيين على السواء، وقد يثير من ثمة تبرمهم أو سوء فهمهم. ما ورد في هذا التوجه الجديد رفض المغرب المشاركة في الاجتماع الذي دعت له بولونيا الشهر المقبل، حول السلم والأمن في الشرق الأوسط، قد يكون غطاء للتأليب ضد إيران، أو تكريس الأمر الواقع، أو رسم أحلاف جديدة. لا مصلحة للمغرب فيه، وحسنا فعلت وزارة خارجية المغرب بالنأي عن ذاك الاجتماع، مثلما أحسنت الخارجية صنعا، كما ورد في حديث الوزير، رفض استمرار المشاركة في «التحالف» في الحرب التي تُشَّن على اليمن، فمنذ مقتل طيار مغربي في مايو 2016، استفحل شعور ضد مشاركة المغرب في «التحالف» من لدن الرأي العام. وإذا لم يكن للمغرب أن يكون جزءا من الحل، فلينأى بنفسه عن أجندات تُرسم في منطقة الخليج في غيابه ولا تستجيب بالضرورة لمصالحه.
أما عن أزمة الخليج، فقد رسم القيّم على الدبلوماسية الموقف المعتدل، الذي تم التعبير عنه في البلاغ الذي صدر عقب اندلاع الأزمة، وفرض الحصار على قطر في مايو 2017. لم ينصع المغرب حينها لدعوة الحصار، ونادى بإصلاح ذات البين بين دول الخليج في إطار مجلس التعاون الخليجي. هذا الموقف، على اعتداله وحصافته، لم يقابَل بالتفهم من لدن من تنطبع ذهنيتهم بعقلية «نحن قوم لا توسط بيننا»، أو «إما معي أو ضدي»، والمغرب يجني اليوم ثمار موقف حصيف، لا يتنكر فيه للوشائج التاريخية والثقافية، ويرسم علاقته مع دول الخليج، وهو أمر مفهوم بالنظر لطبيعة النظام، في خانة الخيارات الاستراتيجية، ليس هناك من تنكر للماضي، ولا لعن المستقبل، رغم الجفاء أو البرودة التي قد تعتري العلاقة مع بعض الأطراف، الناتجة عن أسلوب، أو شخص، أو ظرفية.
في الوقت ذاته، وكان ذلك ضروريا، تحديد نوعية العلاقة مع إيران وأسباب الجفاء. فليس ذلك اصطفافا إلى جانب معسكر في إطار الحرب الباردة ما بين السُّنة والشيعة، بقدر ما هو دفاع عن مصالح المغرب الاستراتيجية، ولن يعيب أحد على بلد الدفاع عن مصالحه الاستراتيجية، ولْيبقَ ذلك المعيار الوحيد في رسم العلاقة مع إيران.
مثلما اتسم موقف الخارجية المغربية بالاعتدال حيال الملف السوري، فللمغرب وسوريا وشائج عريقة وأواصر علاقات عميقة، والشأن السوري الداخلي يهم السوريين. ويستحسن أن يلتحق السفير المغربي بدمشق في أقرب الأوقات. وذكّر وزير الخارجية بمواقف المغرب المبدئية من القضية الفلسطينية، وحسنا فعل.
وبيت القصيد هو العلاقات المغربية الجزائرية، إذ عرض الوزير للوضع السيريالي للعلاقات بين البلدين، ولو أنه كان حريا به أن يذهب أبعد، لأن متاريس وأسوارا انتصبت بين بلدين شقيقين. جيد جدا أن يعود الاهتمام المغاربي في الخطاب الرسمي، وجيد جدا كذلك ما قاله الوزير المغربي من الاستغناء عن أي وساطة. لا يمكن إلا أن نوافق على توجه نَعُدّه حصيفا وبنّاء. إلا أن التوجه الجديد يستوجب وِقفة من أجل إحاطته بسبل النجاح. لقد شارك المغرب في قمة دول الخليج التي انتظمت بالرياض في أبريل 2016، وأسلم القياد بدون مقابل. هل قدّر مسؤولوه حينها مؤدى وتبعات جملة من قبيل «ما يمَسُّكم يمَسُّنا»؟ هل ذهب عنهم أن المغرب، بقدر ما هو عربي، هو كذلك أمازيغي، وأن المواقف الدبلوماسية تبنى على المصالح، أو المبادئ، أو التوجهات، وليس العصبيات. خلّف ذلك استياء عميقا في نفوس من اعتقدوا أن المغرب حقق مصالحة ثقافية، ذلك أن الأمازيغية لا تُختزل في رسم حرف تيفيناغ على واجهة، أو زخرف دستوري، ولكنها بالأساس الوفاء للتاريخ وللجغرافية، ولأن بلاد المغرب، برمتها، حين حل بها الوافدون العرب، لم تكن أرضا خلاء، وامتزجت وإياهم، والتحموا بناء على مصير مشترك، لا يزري هذا بذاك، وانصهروا جميعهم في القضايا المصيرية بلا تمييز. لا يحدث التمييز أو التنافر إلا حين يذهب الغلو ببعض الاتجاهات إلى طمس البعد الأمازيغي، أو الإزراء به، أو بأصحابه.
ولأن المغرب عربي، كذلك، هل كان من الحصافة الإعراض عن استضافة قمة عربية، مهما كانت الاعتبارات. الواقع العربي معروف ولا يفيد أن نُلقي الملح على الجرح أو نزيد الطين بِلَّة، بل المطلوب إيجاد توافق لما يعتري العالم العربي من فُرقة وتناحر. فلم يُحجم المغرب سابقا في أن يكون أرض الحوار والتلاقي والمصالحة، حين تنسد الأبواب في الشرق، لذلك كان اعتذار المغرب عن استضافة القمة العربية قبل أكثر من سنتين غير مفهوم، ولا يتطابق مع توجهاته وتاريخه، بل ومصلحته. إن ضمان التوجه الجديد الذي أسفر عنه مسؤول الخارجية الأول، يستلزم الإحاطة بأسباب النجاح، والتحوط مما قد ينسفه.
فبقدر ما نُكبر التوجه الجديد الذي ينم عن وعي وشجاعة، في القضايا المشار إليها ومنها العلاقات المغربية الجزائرية، بقدر ما نريد لهذا التوجه ضمانات النجاح. يمتزج في العلاقات المغربية الجزائرية ما هو موضوعي بما هو ذاتي. وإذا كان الموضوعي، في العلاقة بين البلدين، معروفا، وموقف كل طرف معهودا، فإن الذاتي يتطلب أسلوبا آخر غير ما تفترضه المقاربة الموضوعية من لدن من مهنتهم الدبلوماسية، وفق قواعدها، وأروقتها وخطابها وأدبياتها. الجانب الذاتي، بالنظر إلى طبيعة العلاقات المغربية الجزائرية، التي يمتزج فيها التواصل والجفاء على السواء، فضلا عن تراكمات، يستلزم كثيرا من الكياسة واللباقة والأناة. لا شك في أن الدعوة للحوار فضيلة، ولكن ضمان نجاحه رهين بالأسلوب وحسن اختيار الزمان والظرفية.
إن التوجه الجديد يستلزم التنويه، وهو توجه نريده أن يكون سديدا، لإن أعمال العقلاء تُنزَّه عن العبث، كما ورد في الأثر، ولا نريد لهذا التوجه أن يثلمه ما قد يعيبه أو يُقوّضه.